ينبغي -من الأمانة- ألا تمنعنا معارضتنا للنظام الانقلابي بقيادة "عبد الفتاح السيسي" من الاعتراف بما انفرد به، وسجّله كإنجاز تاريخي لم يسبق له مثيل.
ففي ثلاث سنوات فقط، حقّق قائد الانقلاب العسكري أرقاماً قياسية، ستكتب لا محالة في سجلات التاريخ، حيث تمكّن وحده من مضاعفة ما استدانت به مصر منذ بداية الحكم العسكري عام 1954 وعلى مدار 60 عاماً.
ففي الوقت الذي سجل فيه الدَّيْن الخارجي عام 2010 بنهاية عهد مبارك (34.7 مليار دولار)، بلغ في عام 2017 على يد السيسي 71.8 مليار دولار (أي أكثر من الضعف)، بل ورفع حجم الدين الخارجي 40% في عام واحد هو (2016 - 2017).
ومن المتوقع أن تصل ديون مصر الخارجية منتصف عام 2018، بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية المقبلة، إلى حدود الثمانين مليار دولار، بعدما يضاف لها قرض صندوق النقد الدولي الذي يصل إلى 12 مليار دولار، والذي بدأ يصل مصر على دفعات.
وتستحق على مصر ديون واجبة السداد قبل نهاية 2017 وحدها بقيمة 11.9 مليار دولار، فيما تبلغ فاتورة فوائد الديون فقط 381 مليار جنيه في عام واحد، وهو ما يعادل ثلث الموازنة العامة المصرية للعام المالي 2017 - 2018.
أي أن مصر مطالبة بأن تدفع ثلث موازنتها لفوائد الديون، بينما الديون نفسها، كما هي، وتزداد على الدوام، باستمرار وجود "السيسي" في الحكم.
كما قفز الدين المحلي بنسبة 28.9 في المائة، ليصل إلى 3.7 تريليون جنيه مصري، أو ما يوازي 166.9 مليار دولار.
وقد حذر خبراء بشدة من خطورة ارتفاع نسبة الدين العام والتي قفزت إلى 131% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام 2016، بحسب البنك المركزي المصري، أي أنها تبتلع الناتج المحلي بأكمله وتتخطاه، وتتخطى كذلك الحدود الآمنة عند 60% وفقاً لصندوق النقد.
إلى من تدين مصر؟!
تتنوع سجلات دائني مصر وتزداد قيمة فوائد أموالهم على الدوام؛ حيث سجلت ديون مصر لدول نادي باريس زيادة بقيمة 35% لتصل إلى أكثر من 30 مليار دولار.
وكشف تقرير البنك المركزي في سبتمبر/أيلول الماضي، أن سبع دول تمتلك حوالي 51% من إجمالي ديون مصر الخارجية.
والدول السبع هي: السعودية، والكويت، والإمارات، وألمانيا، واليابان، والولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا.
وبحسب التقرير، فإن باقي ديون مصر الخارجية لحساب منظمات أوروبية متعدّدة بنسبة 27%، حيث يستحوذ البنك الدولي على 9.8%، وبنك الاستثمار الأوروبي على 3.4%، والبنك الإفريقي للتنمية على 3.6%.
لكن لماذا يمثّل الدين الخارجي خطورة أكبر بكثير من الدين المحلي رغم أن الثاني ثلاثة أضعاف الأول تقريباً؟
الإجابة لها شقان: فأولاً بالنظر إلى نسب العملات التي تدين بها مصر، فالدولار الأميركي يأتي في المقدمة بنسبة 69%، فيما لا يتوفَّر في مصر ما يكفي من "الأخضر الأميركي" ما دفع البنوك إلى المضاربة في السوق السوداء لجمعه مرة أخرى، وفي دولة تعتمد بشكل رئيسي وضخم على الاستيراد فالأمر به خطورة كبيرة.
وثانياً: تمثل الديون الخارجية صورة من صور الاستعباد للوطن بأكمله، استعباد لإرادته وسيادته ورهن لمقدراته وثرواته، كما تفتح الباب على مصراعَيه لجدولة الديون بفوائد ضخمة، ومن ثم الوقوع في هاوية الإفلاس.
مصر المديونة
بحسبة بسيطة لحجم الدين العام ونسبته لعدد السكان، نعلم أن كل مصري يولد اليوم في زمن السيسي، يأتي إلى الدنيا وهو مديون بما قيمته 45 ألف جنيه تقريباً مرشحة للازدياد، وبدلاً من أن ترصد الدولة من ميزانيتها ما يكفل حياة كريمة لمن يولد على أرضها، تكبّله بديون لا قِبل له بها.
الحلقة السوداء المفرغة وأسباب ارتفاع الأسعار
تكمن خطورة الاقتراض الداخلي في تأثيره الكارثي على الاستثمار؛ حيث إن طروحات الحكومة من أذون وسندات، تزاحم القطاع الخاص في الحصول على التمويل اللازم من المصارف والبنوك، والتي تفضل الاستثمار في أدوات الدَّيْن الحكومي لانعدام الخطورة بها وارتفاع معدل عائدها، وهو ما يستتبعه حاجة الحكومة لردّ دَين البنوك من خلال طبع نقود جديدة "بنكنوت"، وهنا تضخ الحكومة في السوق أمولاً لا يقابلها إنتاج حقيقي، وبالتالي تزداد وتتضاعف كافة أسعار السلع والخدمات، فيما يطلق عليه اسم "التضخم"، ومع سوء إدارة الدَّين تظل البلاد في حالة دائمة للاقتراض في حلقة سوداء مفرغة.
الديون مقدّمة للانهيار
فمع استمرار تراجع السياحة، والتصدير، وإغلاق المصانع وانهيار معدلات الإنتاج، وهروب المستثمرين من بيئة غير آمنة وغير مستقرة وتهميش القطاع الخاص، لصالح التغول العسكري؛ حيث بات الجيش في مصر شركة مسلحة مصرية، تبتلع الأسواق لصالحها وتفصل القوانين على مقاسها، فإن النتيجة الطبيعية ستكون ارتفاع معدلات البطالة وتردي مستوى معيشة المواطنين لمستويات غير مسبوقة، ومع توالي احتياج البلاد للاقتراض، سترتفع سعر الفائدة لأرقام مبالغ فيها وذلك لانخفاض التصنيف الائتماني، وحينها لن يكون أمام الحكومة سوى التوقف عن الدفع وإعلان الإفلاس، ويحق للدول الدائنة بعدها، أن تحجز على ممتلكات مصر في الخارج (سفارات ومطارات) وتمد أيديها داخلياً لتتحكم في ثروات البلاد وقرارها السيادي.
لكن لماذا تستدين مصر وترهن مستقبل أجيال كاملة وتعرضهم لخطر العبودية للدائنين؟!
يتعجب المتابعون والخبراء من سياسة نظام "السيسي" التي يتبعها في كافة القروض تقريباً والتي مرت على مصر خلال الثلاث سنوات، فمن بديهيات الاقتراض عامة في كل دول العالم، أن يكون استخدام القرض في مجالات ذات جدوى اقتصادية واجتماعية، بحيث يحقق القرض مستقبلاً أموالاً تمكن الدولة من القدرة على السداد.
مثل أي مواطن يقترض، فإنه يستثمر القرض في مشروع يدرّ عليه أرباحاً، تمكّنه من سداد مستحقات القرض بالإضافة إلى تحسين حالته الاقتصادية، وهذا ما لا نراه مطلقاً في قروض "السيسي"، حيث يقترض النظام إما لترقيع القروض السابقة أو إقامة مشروعات باهظة التكاليف قليلة العائد، لا تقع في نطاق أولويات البلاد كما لا تخدم إلا فئات محدودة.
والأغرب من هذا كله، وهو ما يمثل النسبة الأكبر من القروض، هو عقد صفقات سلاح بأسعار خيالية لا تتناسب مع الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد، بل ولا تحتاج إليها مصر من الأساس، في ظل شعار يرفعه النظام العسكري الحاكم منذ يوليو/تموز 2013 عن وجود علاقات دافئة وحميمية له مع العدو التقليدي والتاريخي (إسرائيل)، إضافة إلى عدم خوض الجيش المصري حروباً منذ أكثر من 40 عاماً.
وبحسب تقارير صحفية، فإن تكلفة صفقات السلاح التي عقدها السيسي في عامين فقط تخطت حاجز العشرين مليار دولار، وأنفقت مصر على صفقات سلاح من روسيا وحدها بلغت نحو 10 مليارات دولار.
ويؤكد خبراء عسكريون أن أغلب الصفقات العسكرية التي عقدها السيسي ونظامه مع روسيا وفرنسا هي لأسلحة من أجيال قديمة، لا قيمة لها في ظل التفوق الاستراتيجي للعدو الصهيوني.
وذكر الموقع الأميركي "استراتيجي بيغ" المتخصص في الشؤون العسكرية، في تقرير له أن مصر بشرائها طائرات "داسو رافال" قد أنقذت الطائرات الفرنسية من البوار، إذ أنتجت فرنسا هذه الطائرات عام 2000، ولم تُوقع أي صفقة لبيعها إلا في عام 2015 مع "السيسي"، بعد أن رفضها عدد من دول أميركا اللاتينية، وهو ما حدا بالخبراء العسكريين للقول بأن "السيسي" يشتري شرعيته في حكم مصر بتلك الصفقات، كما يطمع من خلالها للحصول على السمسرة والعمولات المتعارف عليها دولياً والتي تتراوح بين 5 و15%، ويتقاضاها رئيس الجمهورية وجنرالات الجيش من القادة الكبار.
وكشف تقرير أصدرته "منظمة الشفافية الدولية" مؤخراً عن ترتيب الدول العربية التي فشلت حكوماتها في محاربة فساد صفقات التسلح والدفاع، فجاءت " مصر، الجزائر، ليبيا، سوريا، واليمن" في خانة "الأعلى فساداً".
وذكرت بعض التقارير السابقة حول التحقيقات مع الرئيس المخلوع "حسني مبارك" بشأن اتهامه بالحصول على عمولات من بيع صفقات السلاح لمصر وصلت في بعضها إلى 35%، حيث قال: أنا -والكلام لمبارك- لم أرفع نسبة العمولة عما كان يأخذه الرئيسان الراحلان "جمال عبد الناصر، وأنور السادات"، والبرلمان كان يعطيني هذا الحق.
وبتلك النسبة التي اعترف بها مبارك، يمكننا تخيّل حجم عمولات السيسي وقادة جيشه من صفقات أسلحة تخطت 20 مليار دولار.
وفي سبيل شرعية مفتقدة، وعمولات بالمليارات، فلتستدِن مصر من "طوب الأرض"، وليذهب شعبُها وأجيالُها القادمة جميعهم إلى جحيم فقر وذل وعبودية للدائنين.
ولْيحيَ السيسي ولتمُت مصر.
أضف تعليقك