منذ قُتلت الثورة في مصر، ارتقى آلاف الشهداء، مذبوحين، أو محروقين، أو معلقين على المشانق، أو مصفّين بدمٍ بارد، أو مسجونين مظلومين مهملين، أو بأي وسيلة من وسائل إبداع النظام مكتمل الجنون، في إزهاق الأرواح المعصومة، لكن أيًّا من هؤلاء الشهداء، لم ينل من الاهتمام والتضامن والتأثر بموته ما ناله شهيدُ الجمعة الماضية، الإمام المرشد محمد مهدي عاكف، رحمة الله عليه.
في اللحظة الأولى التي قرأتُ فيها خبر استشهاد المرشد السابق، حضرتني ذكرى الإمام الياسين، ولم تفارقني طيلة متابعتي للحدث الجلل، وفي رثاء أمثال هؤلاء ممن كتب الله له طول العمر وعظم البذل، تضيقُ اللغة، وتختلط الأفكار، وتتوه الجملُ والعبارات، هيبةً لمقامه الكبير، وصغارًا أمام جهاده العظيم، وشهادته الأعظم، غير أني سأحاول، واثقًا من عجزي عن الوفاء.
حضرتني المقارنة أوّلًا لاستشهاد كل منهما طاعنًا في السنّ، مثقلًا بالأمراض، غير قادرٍ على إيذاء عدوّ ولا إغاظة خصم، ثم توالت في قلبي التشابهات، حتى رأيتُ وجه الياسين يتجلّى في سيرة عاكف، وأشعل استشهاده _وإن لم أتشرف بلقياه_ حنيني الدائم إلى شيخي الياسين الذي أدمنتُ رؤيته وتقبيل يديه.
أولُ ما يجمعهما الروح الجهادية والثورية، كان الياسين رحمه الله مجاهدًا من الطراز الرفيع، حدثني والدي رحمه الله أنه سمعه في فتوّته يقول: "سنقاتلهم يوم نملك مسدّسًا واحدًا" (الصهاينة)، وقد وفّى بكلمته، أما عاكف، فقد قاتل الصهاينة والإنجليز، مجاهدًا متطوّعًا، حاملًا روحه على كفّه في ريعان الشباب، ثمّ كان متهمًا _من الدولة_ دومًا بكونه صاحب روحٍ قتالية، ونفسٍ جهاديّ لا يخبو، وأحد أشهر الموسومين بالصقور داخل الجماعة.
ثم تبيّنتُ في بكاء جيل الشباب عليه، وعظم حزنهم لفراقه، قُربَه العظيم منهم، ومكانته العظيمة لديهم، وعجبتُ لحرارة مشاعر كثيرٍ من الشباب الذين تركوا الإخوان وشقوا طريقًا بعيدًا عنهم بالكلية، كيف تألموا لموته أكثر من بعض منتظمي الجماعة، فتذكّرتُ شيخنا الياسين رحمه الله، وحرصه على الشباب، ومؤاخاته لهم، مع فارق السنّ الكبير، فتوثقت لديّ المقارنة، وعظمت المشابهة.
رأيتُ في ندبهم له كلامًا مفعمًا بالعاطفة الصادقة، والشعور النبيل، يسمونه والدهم وعمّهم، ويستذكرون أيامهم معه، ويبكون أنهم لن يروه ثانية! فعلمتُ من ذلك أنه رغم صلابته المشهورة عنه، يحملُ في صدره قلبًا ياسينيّ الطبع، صلبًا في الحقّ، لكنه مع ذلك بالغ الرقة، عظيم الرأفة، وافر الحنوّ.
أضف فوق ذلك زهده -النادر في هذا العصر- في تولي المناصب والمسئوليات، وهو أمرٌ مفتقدٌ جدًّا هذه الأيام في جماعة الإخوان، كم يحتاجُ هؤلاء روح عاكف هذه ليحلّ فيهم شيء يسيرٌ منها، واتّباعُه في هذه أكرمُ لهم وأوفى له من إقامة الصلوات عليه، واتخاذ بيوت التعزية فيه، متنازعين في ذلك كله.
في حضرة الشهيد الكبير، تغدو هذه المطالب _المستحيلة على ما يبدو_ أعظم وجوبًا، وأدعى أن يبادر إليها القوم ويسارعوا إليها، عملًا بما ورد في تنظيراتهم، ألم يدرّسوا شبابهم: "إنّ دماء الشهداء إذ تسيل، تكتبُ حقًّا على الباقين، أن يسيروا بلا خلاف على الطريق الذي رسموه".
كأنّ الله أراد للمرشد الشهيد، أن يموت هذه الميتة الخالدة، لتكون شهادتُه دعوةً إلى الخير، حُجّة على من يتنكر له، وقبل ذلك كلّه حتى يُكرم بها هذا المجاهد الكبير، الذي طلب الشهادة في فلسطين قبل نحو سبعين سنة، فكتبها له _وهو حسيبه_ في سجون الظلمة، بعد طول عمر وحسن عمل إن شاء الله.
هي ميتةٌ تليقُ بمثله، وقد كنت قبل استشهاد الشيخ أحمد ياسين أتساءل في نفسي: كيف يموت الشيخ بعد نضاله الطويل على فراشه! وفِي الوقت ذاته أقول: أنّى له أن يُستشهد، وهو لا يقوى على تحريك يد أو رجل في مواجهة! لم أتخيل أن يكون الصهاينة من الحمق لدرجة قصف مسنّ مشلول على عجلة! حضرتني هذه الذكرى إذ رأيتُ محمد مهدي عاكف يلفظ أنفاسه شهيدًا في السجون الظالمة. إي والله! ما كان يليق بأي منهما إلا أن يموت شهيدًا!
منذُ تدهورت صحة الشيخ مهدي عاكف، وتعالت الأصوات المطالبة بالعفو الصحيّ عنه، وأنا خائفٌ عليه أن يموت مسجونًا، كنتُ أرى أنّ مناضلًا كبيرًا مثله، يستحقّ أن يموت محاطًا بأهله وأحبابه، لكنني حين صعقتني شهادتُه، أدركتُ المعنى، أو بالأحرى تذكرتُه، لقد كانت الشهادة أحقّ به! وتملّكني قوله عزّ وجلّ: "ويتّخذ منكم شهداء"!
إنّ أرواح الشهداء المرفرفة إلى العلياء، تعطينا أصدق التفاسير لآي الكتاب الكريم، وتجدد فينا معانيه أعظم تجديد وأجمله، فلله الحمد والشكر، وللشهداء بإذنه المثوبة والأجر، أحياءً بيننا، وأحياءً عند ربهم يُرزقون!
أضف تعليقك