نالت المرأة التحرير الأكبر في عصر الرسالة والخلفاء الراشدين ــ رضي الله عنهم ــ وأنصفها جمهرة كبيرة من فقهائنا في العصور الأولى حتى قالوا بجواز أن تكون قاضية بعامة، ذاك المنصب الخطير الذي كان يلي مرتبة الخلافة في الشروط والمقومات الشخصية، وهم في ذلك مستظلون بشجرة التحرير الأكبر لها في عصر الرسالة.
ولقد شاركت المرأة في العمل السياسي منذ فجر تأسيس الدولة الإسلامية حين هاجرت إلى الحبشة، ثم حين شهدت بيعة العقبة الثانية والتى كانت تسمى بيعة الحرب ــ وكانت بيعة العقبة الأولى تسمى بيعة النساء ــ، هذه البيعة التي تمت في جو تحيطه السرية، والكتمان والحذر، كما أحاطته الخطورة حيث تمت البيعة في جنح الظلام خوفًا من أعين المشركين، أو كما يصف كعب بن مالك حاله وحال من حضرها(نتسلل تسلل القطا مستخفين)، وهذه البيعة تتصل بالحكم والدولة، وإذا كانت بيعة العقبة الأولى بيعة على الالتزام بالإسلام والابتعاد عن الفواحش فإن البيعة الثانية كانت على الحرب، والجهاد في سبيل الله والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأييده من قبل الرجال والنساء جميعًا.
ثم كانت الهجرة إلى المدينة، وتحملت في ذلك تبعة الالتزام بالدين الذي آمنت به، والفكرة التي عزمت على نصرتها، حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بالنفس. كما تميزت المرأة في عصر الرسالة ــ بالاهتمام والوعي بالأمور العامة وقدمت المشورة في بعض القضايا السياسية، وشاركت في المعارضة السياسية في بعض الأحيان، وعندما احتاج الأمر إلى القتال قاتلن، وقبل ذلك أسْدَين خدمات طبية وأعنَّ في المهام التي يحتاج إليها الجيش.
ثم تطور أداؤها وعطاؤها في عصر الخلفاء الراشدين حتى تولت منصب الحسبة على الأسواق في عصر عمر بن الخطاب، كما استشيرت في الخليفة القادم عندما طعن عمر بن الخطاب فأخذ عبد الرحمن بن عوف يستشير الناس، حتى استشار النساء المخدرات فى حجابهن كما يروي ابن كثير.
لم يختلف الفقهاء في ولاية المرأة للولاية الخاصة مثل ولاية الفتوى أو الاجتهاد، أو التعليم أو الرواية والتحديث أو الإدارة ونحوها، فهذا مما لها ولاية فيه بالإجماع، وقد مارسته على توالي العصور .
كما أجمع الفقهاء على أن للمرأة ذمة مالية خاصة وولاية وسلطانًا على أموالها، فلها أن تتاجر إذا احتاجت ــ أو رغبت ــ ولها أن تشرف على استثمار أموالها، وليس لأحد أن يسلبها شيئًا من أموالها الخاصة إلا برضاها.
ثم كان للفقه الإسلامي نظرته الصائبة في التأصيل الشرعى للانتقال بالمرأة من الولاية الخاصة إلى الولاية العامة منذ القرن الثاني الهجري حين قرر أبو حنيفة والأحناف جواز ولاية المرأة للقضاء فيما تشهد فيه ــ أي ما عدا الحدود والقصاص ــ، وتوسع الأمر أكثر حين قرر الطبري وابن حزم وبعض المالكة جواز ولاية المرأة للقضاء بإطلاق.
وقد قال بجواز تولية المرأة القضاء بعامة جمهور الفقهاء المعاصرين،والاعتراف بحقها في التمتع بكافة الحقوق السياسية وشغلها كافة الوظائف العامة باستثناء رئاسة الدولة أو الإمامة العظمى، ومن بين الولايات والمناصب أن تكون نائبة في المجالس النيابية عن أهل دائرتها في(مجلس الشعب ــ مجلس الشورى ــ المجالس المحلية ــ وغيرها). منهم الشيخ الغزالى، الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور مصطفى السباعي، والدكتور العوا، والدكتور محمد بلتاجي، والدكتور محمد عمارة، والمستشار سالم البهنساوي.
بل ومن هؤلاء من ذهب أبعد من ذلك حيث قال بجواز تولية المرأة رئاسة الدولة بمفهومها القطري الحالي مثل الشيخ الغزالي، والشيخ القرضاوي، والدكتور العوا، والدكتور محمد عمارة، والدكتور محمد بلتاجى ضمنا.
والأصل العام في قضية المرأة أن المرأة إنسان مكلف مثل الرجل، مطالبة بعبادة الله تعالى، وإقامة دينه، وأداء فرائضه، واجتناب محارمه، والوقوف عند حدوده والدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل خطابات الشرع تشملها إلا ما دل دليل معين على أنه خاص بالرجال.
والمعيار الصحيح فى قاعدة شغل المناصب هو الأهلية الكفاءة والقدرة على القيام بواجبات مهام الوظيفة بعيدًا عن الجنس، مع وضع ضوابط شرعية تمثل الضمانات لممارسة المهام في ضوء الشرع، مثل عدم الخلوة بالرجل، والالتزام بالزي الشرعي، وعدم السفر إلا في ظل مناخ آمن يصون المرأة في بدنها وسمعتها، فضلًا عن التوفيق بين واجباتها الأسرية وواجبات منصبها.
أما حين تتخلف هذه الشروط التي تجيز عمل المرأة في هذه المناصب فالمنع هو الرأي المختار، وحين تتوفر الشروط فلا مبرر للقول بالمنع، ويصبح هذا القول محض التحكم.
وحين نقف على تلكم الرؤية الفقهية الحضارية لحقوق المرأة في الولايات العامة في القرن الثاني الهجري وما بعده إلى يومنا، نتبين إلى أي حد حظيت المرأة في الفقه الإسلامي بحقوقها منذ أمد بعيد.
وفى عصر الجمود الفقهي والتعصب المذهبي، والتراجع الحضاري وعند الجامدين أمام تطورات العصر تراجعت المكتسبات الحقوقية في الولايات العامة للمرأة التي قررها الفقهاء من قديم.
وأراد البعض أن تظل المرأة حبيسة بيتها، وأن تظل أسيرة عادات وتقاليد ليست من الإسلام في شيء، وحاولوا في ذلك أن يضفوا على نظرتهم صفة الشرعية بتفسيرات مغلوطة لبعض النصوص الشرعية مثل تنصيف ميراث الأنثى بالنسبة للذكر، وتنصيف شهادة المرأة بالنسبة للرجل، وأن النساء ناقصات عقل ودين، وأن مقر المرأة في البيت لا تخرج منه إلا إلى لضرورة.
وفي عصرنا وقعت المرأة ضحية بين صنفين من الغلاة. غلاة المتدينين، وغلاة العلمانيين ومن على شاكلتهم.
فالصنف الأول لا يرى لها مقرًا طبيعيًا إلا في مكانين أحدهما البيت والآخر القبر، ولم يعترف لها بحق، في المشاركة الاجتماعية أو السياسية ولم يفرق في ذلك بين المشاركة المنضبطة بضوابط الشرع وبين غيرها.
والصنف الآخر لا يرى لها مقرًا إلا في ساحات المزاحمة بالرجال، ولا يراها إلا متحررة من كل قيد، فلا حجاب يسترها، ولا أدب يزينها، ولا ضوابط شرعية تحكم وجودها مع الرجال، ولا قيود على ما تمارسه من وظائف وأعمال.
وهذا الصنف يقتفي بالمرأة أثر النموذج الغربي في التحرير، فالحرية عندهم هي التحرر من كل قيد، لأن الغرب في نموذجه التحريري للمرأة لم ينطلق من ثوابت إنسانية أو فطرية ترسم له معالم الطريق، وإنما انطلق كالثور الهائج لا شيء يضبط إيقاع حركته، فاقتحم بالمرأة كل مكروه، وانتهك كل محظور، وداس على كل مقدس، وكلا الصنفين ظلم المرأة، وأساء إلى قضيتها العادلة.
وقد تفاوت حجم الإفساح للمرأة في تولية المناصب وشغل الولايات بين الدول العربية والإسلامية، وأخذ كل بلد من ذلك بنصيب، ومرد ذلك إلى العادات والأعراف المجتمعية المحلية لكل بلد والتي تقبل ذلك كله أو بعضه، أو تقبل بتحفظ، وإلى نصيب كل مجتمع من هذه المجتمعات من الانفتاح والتحضر ومستوى التعليم، ومواكبة التطور الحادث في المجتمعات الأخرى. ولولا إباحة القوانين المنظمة في تلك الدول لتولي المرأة هذه المناصب سابقة الذكر لما وجدنا امرأة فيها.
ومع ذلك كله فقد كان البعض يرى إلى وقت قريب - عدة أيام فقط - أن قيادة المرأة للسيارة تفتح أبواب الشرور والمفاسد، وأن المرأة لا تملك إلا نصف عقل، وأن من يقولون بخلاف رأيهم فى قلوبهم زيغ، ويفتئتون على علمائهم.
واليوم وبعد صدور قرار يسمح للمرأة بقيادة السيارة فإنهم لا يرون مانعاً من السماح لها بقيادة المركبة في ظل إيجاد الضمانات الشرعية والنظامية اللازمة لتلافي المفاسد، ولو كانت في نطاق الاحتمال المشكوك فيه، وأن الأصل فى الأشياء الإباحة، وكأن هذه القاعدة التى أصل لها الفقهاء من قديم لم يعرفوها إلا اليوم.
هكذا تتغير فتواهم مع العلم أن الزمن قريب ولم يتغير، وأن الظروف لم تتغير، وأن الواقع لم يتغير، كل ما هنالك أن شيئا آخر – هم أعلم به - لا يمت للفتوى ولا للاجتهاد بصلة هو الذى تغير.
وفى قضايا المرأة - وفى غيرها - نقبل بالاختلاف فى الآراء المندرج تحت الاجتهاد المعتبر المبنى على الأدلة، أما ما كان تكلفا ورجما بالغيب واختلاقا لتصور خيالى متوهم ليس موجودا إلا فى عقل من يتوهمه، وادعاء ليس له أساس علمى من نحو قيادة المرأة للسيارة تهدد عذريتها، وتمثل خطرا على مبايض المرأة وحوضها، كما أنها تدفع حوض المرأة لأعلى ويؤثر على الجنين "إكلينيكيا "، وكأن اللائى سيقدن السيارات كلهن حوامل أقول: هذا كلام لا اعتبار له، ولا يقف فى ميزان الحقيقة العلمية على قدم وساق.
ويأتى بعضهم بالقول وضده دون حجة ناصعة أو أدلة مقنعة، فى أوقات متقاربة، اللهم إلا حجة واحدة هى أن قرار السلطان سبق بالبيان، مما أوقعهم فى حرج وارتباك، جعلهم خجلى بين أهل العلم، أو على الأقل بينهم وبين أنفسهم، وما عاد يستغرب منهم الخطأ، وما بات يعاب عليهم الخلط، وما أضحى كلامهم بذى قيمة، ولا رأيهم بذى نظر، وصارت فتاواهم لا يؤبه لها، كما أنها تفتقر إلى نور العلم وصدق اللهجة وقوة الحجة، وإن مثلهم كمثل من عناه أبو الطيب المتنبى حين قال : أنا الغريق فما خوفى من البلل؟
أضف تعليقك