• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

حينما بدأتُ بكتابة هذه المقالة، وقبل نشرها بيوم، كان وفد حكومة الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس في طريقه إلى قطاع غزّة. عُدّت هذه الخطوة؛ الحركة الفعلية لإنهاء الانقسام. ربما يكون ذلك إغراقا في التفاؤل، إذ لم تبدأ بعد الحوارات التفصيلية بين الفصيلين اللذين شكلًا عنوان الانقسام الفلسطيني، ولكن أحدا في قطاع غزّة لا يرغب في شيء آخر، سوى تصديق حكاية دفن الانقسام، أو بعبارة أدق، ولكنهما مؤلمة لحماس وجماهيرها، إزاحة حماس عن حكم قطاع غزّة!

(1)

لا تنظر الجماهير عادة، وهي في قلب المطحنة، إلى السياقات التي جعلتها في هذا الوضع. وإذا كان ما جرّ قطاع غزّة إلى سلسلة من الحروب المدمّرة، والحصار، وما يستتبعه من أزمات معيشية خانقة، هو حكم حماس الناجم عن مشاركتها في آخر انتخابات تشريعية قبل أكثر من عشر سنوات، فإن الحركة في خيارها ذاك؛ كانت ترغب في التعامل مع معطى أوجدته حركة فتح، أي اتفاقية أوسلو وابنتها الكبرى، السلطة الفلسطينية. آل ذلك المعطى إلى ما نحن فيه اليوم.

لا تعفي مسؤولية فتح التأسيسية عن كوارث الحالة الفلسطينية؛ حماس من مسؤولياتها عن خياراتها. 

لقد حذّر الكثيرون، بما في ذلك بعضٌ من أبناء حماس، الحركة من خطورة محاولة الجمع بين حكم له شروطه الاستعمارية، ومقاومة لا تهدف إلى تدمير تلك الشروط فحسب، بل وإلى إزاحة الاحتلال، لقد وقعت حماس في تناقض جوهري، وأدّى ذلك فيما بعد وفي ظلّ التعقيد الخاص بالوضع الفلسطيني، إلى تحويل المقاومة من داخل غزّة إلى عبء، لعجزها عن استنزاف الاحتلال في أفق مغلق هو قطاع غزّة، في حين لم يكن باستطاعتها تعزيز صمود الشعب وهو يستنزف لتحمله الكلفة الباهظة لتلك المقاومة.

يمكن الحديث هنا عن جملة من أخطاء الحسابات الإستراتيجية وقعت فيها حماس، ولاسيما عدم إدراكها، لخطورة التمايز الفلسطيني الداخلي، وهذا الخطأ تحديدا، مؤسس على الانفصال الجغرافي القهري الذي فرضه الاحتلال، وعجز حماس، إذ يُفترض أنها حركة تحرر وطني، عن الرؤية الواحدة من أعلى لمجمل الصورة، فبدا عنصر القوّة المتشكّل لحماس في غزة، حاسمًا في إقرار سياسات الحركة.

لم يكن فعل الانقسام عميقًا في غزّة فحسب، حتى وإن كانت المصالحة الجارية أقرب إلى مصالحة خاصة بقطاع غزّة، فقد وفّر ذلك الانقسام للسلطة، أدوات أكبر في تنفيذ مشروعها السياسيّ والأمنيّ في الضفّة، إذ أقصيت حماس بقسوة بالغة عن المجال العام، واستفردت السلطة بهندسة ذلك المجال، وهو ما خلق في النهاية ظروفًا شديدة التباين بين الضفّة وغزّة، جعلت شعور أهل غزّةبالخذلان يتعاظم، فهم وحدهم الذين تُفرض عليهم الحروب، ويخنقهم الحصار، دون أن يساعدهم إخوانهم في شيء. مرّة أخرى، لا تنتبه الجماهير المسحوقة، للسياقات والظروف الموضوعية، وإنما تهيمن عليها اللحظة الراهنة.

في الأثناء، كان ثمة أسئلة كثيرة عن قدرة حماس في غزّة على التعاطي مع هذا الواقع الذي ساهمت في حشر نفسها فيه، ولاسيما إن كانت قادرة بذاتها على مواساة الجماهير. بمعنى: هل قدّمت حماس بكل رموزها في الحركة والحكومة، مسلكيّة أكثر التحاما بالجماهير، وتماثلا معهم في ظروف عيشهم؟ أو بعبارة أخرى هل تمكّنت من منع أي مسلكيّة فاسدة أو مستفزّة للناس؟

بالإضافة إلى هذا السؤال الحيوي، في واقع الحصار والظرف المتمايز الاستثنائي الذي عاشه القطاع، كانت حماس تجد نفسها مهدّدة، فلم يكن حكمها واستمراره يسير في سياق طبيعيّ، نتيجة التحدّي الأمنيّ المفروض على الحركة من جهات عدّة، وهو الأمر الذي أوجد من جهة، تمييزا حزبيّا لصالح أنصار المشروع ونواته، أي أبناء الحركة، وقدرا من السطوة الأمنيّة لحماية المشروع، وقد خلق ذلك حاجزًا بين الحركة الحاكمة، والجماهير من عامّة الناس.

تلك الأخطاء وما انبثق عنها، تجعل من خطوة حماس في التخلص من حكمها لغزّة مهمّة وضروريّة، مهما كانت الإرادات الدولية والإقليمية التي دفعت نحو إنجاز ما جرى إنجازه –حتى الآن- من هذه المصالحة، ومع أن الحركة مطالبة بإنجاز تحليل دقيق لتلك الإرادات، لنفسها وقواعدها التنظيمية، بعيدا عن الدعاية الداخلية المضللة، فإنها مطالبة أكثر باستثمار فرصتها المتاحة لها الآن لالتقاط الأنفاس، لتصحيح كل أخطاء العقد الماضي داخليًّا ووطنيًّا، ووقوف جميع أطراف الحركة بمسؤولية عالية عند ما احتملته من تلك الأخطاء، وقوفًا صادقًا وجادًّا بعيدًا عنأوضاع الجيوب والمحاور ومراكز النفوذ التي تلقي بظلالها على أداء الحركة في السنوات العشر الماضية إلى حدّ كبير.

(2)

قد تكون هذه الفرصة لالتقاط الأنفاس طويلة، أو قصيرة، فنحن في فلسطين، لقطة صغيرة من مشهد الإقليم والعالم؛ سريع التحول، بيد أن احتمالات الصدام من جديد قائمة، مادام هناك ازدواج أمنيّ في القطاع طرفاه قوّة حماس العسكرية وبنيتها الأمنية، وأمن السلطة القادم إلى غزّة، وما دام سلاح المقاومة قد يُطرح في أي وقت، وما دامت الإرادات الإقليمية والدولية التي سهّلت، أو دفعت، نحو هذه المصالحة؛ غير مفهومة بعد، وقد تتحوّل في اتجاهات خطيرة في أيّ لحظة.

سبق لي أن قلت، مرات عديدة، إن موضوع المصالحة لا يتعلق بالأفكار وإنما بالإرادات، وكانت الإرادة المطلوبة أكثر من غيرها، هي إرادة السلطة، يبدو الآن أن ثمّة ما حفّز هذه الإرادة، وهو تحفيز بالدرجة الأولى خارجيّ، لكن ثمّة إرادة مهمّة، بدت في التحرك المصري، الذي لا يدلّ على إرادة مصريّة صرفة، بل عن إرادة إقليمية ودولية، كما سبق وقلنا في مقالة ماضية، وذلك لانعدام استقلال الدور المصري في هذه الحقبة.

خطورة هذه الإرادات ليست فيما قد تستبطنه من محاولة اجتراح مخططات جديدة للقضية الفلسطينية، إذ يبدو العالم اليوم أعجز عن إدارة المشاريع الكبرى لضعف قواه الكبرى ودخوله في حالة من الفوضى وافتقاره إلى اليقين، مع أهمية أخذ محاولات كهذه بعين الاعتبار مع وجود محاولة لبناء محور إقليميّ جديد يستدخل إليه "إسرائيل"، وإنما الخطورة الأكثر إلحاحًا احتمال انفراط العقد الذي انتظمت فيه تلك الإرادات، أو كشف تلك الإرادات عن نوايا خطيرة، ومن ثم احتمال المواجهة الفلسطينية الداخلية مجددا، أو العودة إلي الخلف، أو المزيد من تعقيد الأوضاع.

في الإطار العام لم تُحل المعضلة الفلسطينية، وما يبدو أنه قد أنجز لن يكون شراكة كاملة، أو وحدة وطنية، وإنما هو حتى اللحظة تنازل من حماس عن حكمها، دون أن يتحول ذلك إلى إدارة مشتركة لمشروع وطنيّ، يَخرج بالفلسطينيين من الأزمات التي ترتّبت على اتفاق أوسلو وعلى الانقسام الفلسطيني.

والحال هذه، فإن حماس مضطرة من الآن، للتفكير في الآتي، بحيث لا تستنسخ بها التجربة الماضية، فالسلطة لم تزل قائمة، والبرامج السياسية متباينة، وحركة فتح ونخبة السلطة لا تملك إرادة للتحرر من الواقع القائم، والانتخابات أطروحة من ضمن رزمة تفاهمات المصالحة، وهذه كلها معطيات صعبة، ينبغي الإجابة عليها بالشرط المذكور أعلاه، أي بألا تكرر حماس تجربتها الماضية.

أمّا من جهة إرادة حماس بخصوص إنجاز المصالحة، فقد كانت الأكثر رغبة في ذلك، بدليل سلسلة التنازلات التي قدّمتها خلال السنوات الماضية، واحتياجها الشديد للتخلص من الأزمات المستحكمة في غزّة، ولكن تصريحات السنوار، رئيس فرع حماس الغزّي، بكسر رقبة كل من يعطّل المصالحة من حماس أو غيرها، يحيل إلى احتمال وجود أطراف في الحركة كانت تسعى في تعطيل المصالحة، سوف تكون بالضرورة المستفيدة من حالة الحكم في غزّة، وهو ما يذكّر باعتراض الفرع الغزّي على بعض محاولات المصالحة السابقة.

يقود ذلك إلى أهميّة وجود قيادة قويّة داخل غزّة قادرة على حل العقد الخاصة بحماس في غزّة إزاء هذا الأمر، لكن ربط الأمر كله بالقيادة الجديدة، يصوّر الأمر وكأنّ حماس من كانت تعيق المصالحة من قبل. هذه واحدة من الموضوعات التي على حماس مراجعتها؛ أداؤها الإعلامي، وخطابها الذي يُفرط في ذهابه بعيدًا بحسب اللحظة التي تعيشها.

أضف تعليقك