• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

هي أزمة من نشأ في بيئة متواضعة الذكاء، فكان "أذكى إخوته" إذ تتعقد أزمته إذا انتقل إلى أبعد من هذه البيئة، فيسيطر عليه إحساس أنه الأذكى أيضاً، وكما كان في وسط أسرته هو مثال العبقرية، فإنه يتعامل على أن هذا العالم الفسيح، ليس أكثر ذكاء من إخوته، ليظل هو الأذكى، وإن كانت المقارنة لا تجوز إلا في بيئة ربما يعاني أفرادها من مرض التوحد، وليس العالم كله مصاباً به، كما أنه ليس الوحيد السليم المعافى على ظهر البسيطة!

عندما يتم الإعلان عن شراء عبد الفتاح السيسي صفقة أسلحة من كوريا الشمالية، رغم الحظر الدولي، فلابد أن يستقر في وجداننا، أن أزمة "أذكى إخوته"، صارت مستعصية، على نحو يهدد وجوده، عندما يظن أن ذكاءه يؤهله للمناورة وإتمام صفقات سرية لا يعلم بها أحد. فمن الواضح أنها صفقة تمت في السر، والدليل أنها لم تعرض على البرلمان، أو تنشر في الجريدة الرسمية، وقد ظن لاعتقاده أنه "أذكى إخوته"، أنه يستطيع تمريرها بعيداً عن الرقابة الدولية، وبعيداً كذلك عن أعين الفضوليين في هذا العالم!

الإعجاب بالنفس وبالقدرات الخارقة، سمة من سمات السيسي، الذي يرى أنه طبيب الفلاسفة، وفيلسوف الأطباء، وأن عقلاء العالم وفلاسفته يأتون إليه ليصف لهم الدواء لكل المشكلات وسائر الأمراض، وإذ كنت أعتقد وقتها أنه يعاني من ارتفاع في درجات الحرارة أنتج هذا الهذيان، فقد صرت الآن على يقين بأن هذه هي رؤيته لنفسه ولقدراته، فلا يزال يسيطر عليه الإحساس بأنه "أذكى إخوته"، وأنه "فلتة جيله"، و"كايدة العزال أنا من يومي"، والمقطع الأخير هو من أغنية للفنانة الراحلة "عايدة الشاعر"!

فالسيسي يدرك أن في الإقدام على إبرام صفقة أسلحة من كوريا الشمالية إنما يعد مخاطرة كبرى، ومع هذا فإنه يتصور أن فرط ذكائه، يجعله قادراً على أن يحيطها بجو من السرية، فلا تعلم يمينه ما أنفقت يساره، ليفاجأ بأن الخبر وصل للإدارة الأمريكية، وأن مجلة "نيوزويك" الأمريكية تملك ملفاً بالصفقة، فتنشره، وسط دهشة العالم لهذه الخطوة المجنونة، التي يخفف منها استفحال أزمة من كان في يوم من الأيام "أذكى إخوته"، وإذا كانت مصر استمرت علاقتها بكوريا الشمالية في العهود السابقة، فإن الأمر اختلف الآن، فقد صار العالم الغربي يرى في هذه الدولة خطراً، وترامب يرى أن معركته ضدها مسألة حياة أو موت، هذا فضلاً عن أن هناك حصاراً دوليا مفروضاً على كوريا الشمالية، وقد كان مبارك يلتزم بمثل هذه القرارات، حتى عندما فُرض قرار بالحصار على جارتيه: "ليبيا، والسودان"، وقبل هذا وبعده فإن السيسي يفتقد لشرعية عبد الناصر والسادات بل وشرعية حسني مبارك، فقد جاء بانقلاب، وهناك انتخابات رئاسية قادمة، إذا نفخت فيه واشنطن، فسوف يكون أثراً من بعد عين!

وإدراك السلطة في مصر بخطورة الموقف، هو الذي دفع وزير الدفاع إلى الإعلان في كوريا الجنوبية في الشهر قبل الماضي، أن مصر ستقطع علاقتها بكوريا الشمالية، بيد أن "أذكى إخوته" ظن أنه يستطيع أن يناور، فيفتح علاقة مع الزعيم الكوري "كيم جونغ أون"، لن تضر بموقفه لأنها سرية، وفي الوقت ذاته يستخدم هذه العلاقة لتقوية مركزه، إذا وجد زهداً أمريكيا فيه، أو عدم حماس له، ولو في ذلك مغامرات غير مكتملة!

فعندما استشعر فتوراً أمريكيا نحوه، لاسيما من قبل الرئيس أوباما، فقد هرول إلى موسكو، وقال أنصاره إن الفرعون مع القيصر، وكانت عناوين الصحف في اليوم التالي: "السيسي يتجه شرقاً"، لكنه في المقابل عندما وجد نظرة دلال أمريكية، قال هذا ربي هذا أكبر، وإزاء هذه الخفة في التعامل، فقد تجاوزه الرئيس بوتين، ولم يعد يلقي له بالا، ليعد ملفاً تحتكره واشنطن وكان بوتين فيه من الزاهدين!

وفي علاقاته بدول الخليج، مارس المناورة، فكلما ضنوا عليه بالرز، فتح علاقات مع خصومهم، فلم يعد سراً أن مصر استقبلت وفداً من الحوثيين في القاهرة، كما استقبلت وفداً من الصحراويين، في رسالة وإن بدت موجهة للمملكة المغربية، فإنها لدغدغة مشاعر الجزائريين بأنه معهم، وكرسالة للسعوديين بأن قدرته على أن يلاعبهم في هذه الملفات الحساسة فائقة، فليس هو محمد مرسي الذي تُفتح له كل الأبواب الإيرانية فيأبى إلا أن يستمر في الحلف السعودي، وكما سمح للوفود الصحفية بزيادة الصحراويين الانفصاليين، فوفود الصحفيين ورجال الدين والسياسيين سافرت إلى طهران مشمولة بالسماح الأمني وكانت رسالة لا تخطئ العين دلالتها، بالإضافة إلى تحريضه أذرعه الإعلامية، فسلخت "أولي الأمر" في العربية السعودية بألسنة حداد!

والذي أغراه بنجاح هذه السياسة أن العربية السعودية خضعت له بالقول والفعل، واستقبل "ولي العهد" محمد بن سلمان، من هاجمه وهو "أحمد موسى"، استقبال رؤساء الدول، ولا ضير فمن قبل قال بصوت أجش لمن أدركه البلوغ تواً إن من هاجمه هو الإعلام الإخوانجي، وقد نُشرت صور "أحمد موسى" وهو ينظر في عينيه وكأنه يقول له: "هل هو الإعلام الإخوانجي حقا؟"

هذه المناورات الصغيرة، التي رأى عبد الفتاح السيسي أثارها الطيبة ومردودها الجيد، هي التي دفعته ليناور بعلاقته مع الكوري "كيم جونغ"، ولا يعلم أن ما أقدم عليه هو لعب في عداد العمر، ومشياً على الحبال مع افتقاده للقوة أو لياقة اللعب، فنتيجة افتقار الموهبة للعب هو السقوط على جذور الرقبة، ولعب بالنار يحرق اللاعب غير المحترف.

ولعله اعتقد أنه يمتلك اللياقة على اللعب، فبعد أن انكشف أمر الصفقة مع كوريا، وجاءت مكالمة ترامب التي لم يتم إلى الآن الإفصاح عن تفاصيلها، لتقطع الطريق أمام تعديل الدستور، بما يسمح له بالبقاء في مقعده لسنتين إضافيتين بدون انتخابات، هرول في اتجاه إسرائيل، متقرباً إليها بالنوافل، فأسرف بدون ضرورة في الإشادة بنتياهو، وبرسائله العاطفية للشعب الإسرائيلي، للإفلات من الجريمة التي ارتكبها، ولعل نتنياهو يشفع له في البيت الأبيض فيشفع!

وهو في جميع الأحوال يتصرف على أنه الأذكى، ولا يعلم أن بعض الملفات يعد الخطأ فيها بقطع رقبة أو بإطاحة في يوم ذي مسغبة. وليس دائماً في كل مرة تسلم الجرة!

إنها أزمة من كان في بيئته "أذكى إخوته"، فقد اتسع العالم من حوله ولا يزال يفكر بعقليته عندما كان في "حارة اليهود".

أضف تعليقك