• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

كلنا نعرف قصة الرسام الهولندي الشهير "فان جوخ" الذي قطع أُذْنه بشفرة حلاقة وأرسلها إلى عاملة نظافة تعبيرًا عن حبه لها مع رسالة قصيرة كتب فيها "هذه قطعة من جسدي.. احتفظي بها بعناية"، عندما أتذكر هذه القصة أتساءل عن شعور تلك المرأة وهي تستلم رسالة بها أُذْن بشرية، فمهما كان شعورها نحوه فلربما انتابها في قرارة نفسها شيء من الازدراء والاستخفاف بجنون بدا وكأنه حـب وعشق، فالأمر كان ببساطة مجرد نشازٍ في العواطف وإسفافٍ في التعبير. تلك العواطف الناشزة صارت تطبقهـا اليوم دول "معتبرة" للتعبير عن عشقها وتيمها لسياسات لا تنتمي إليها أصلًا حتى تستحسن عرابيهــا وتتقرب إليهم فصارت "ملكية أكثر من الملك".

يصرح السفير الإماراتي في أميركا بأن الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين تؤسس لشرق أوسط علماني مزدهر ومستقر ومختلف بشكل أساسي عما تريده قطر، ومن حينها تبدأ سياسات "فان جوخ" تظهر على المشاع في تلك الدول لإثبات علمانيتها وتحضرها.

الأمر للأسف تجاوز الحدود المنطقية المقبولة وتحول إلى مجرد ابتذال فكري وأخلاقي في استهداف صارخ لرموز إسلامية وقيم متأصلة في المجتمع العربي المحافظ للإقلال من هيبتها. كل ذلك تحت مسميات "التحضر" والانفتاح والليبرالية والعلمانية أو سَمِّهَا ما شئت.

فحينما يغني شيخ بعمامة أزهــرية "لسه فاكر" على أنغام العود والناي، فاعرف أنها رسالة من "فان جوخ"، وحينما تقوم فتيات محجبات بالرقص على أنغام غربية في حضور وزير التعليم العالي في جامعة القاهرة فهي رسالة أخرى لـ"فان جوخ"، وحينما يغنى مطرب سعودي على الموسيقى جزءًا من سورة الفلــق فهي رسالة "فان جوخ" كذلك، وحين تقام حفلة في القاهرة ترفع فيها شعارات المثليــيين فهي رسالة "فان جوخ" أخرى، وكذلك الأمر حين تقيم فرقة موسيقية حفلة في مسجد بحضور شيخ أزهري “مسيس”.

وعندما يقام حفل غنائي راقص ومختلط في ميادين السعودية وبتحريض من الدولة، فاعلم أن أُذْن "فان جوخ" قد قطعت، وحينما يصدر مرسوم ملكي يسمح للنساء بقيادة السيارة في السعودية وبمباركة هيئة الإفتاء، فاعلم أن أُذْن "فان جوخ" قد تم إرسالها، أما عندما تفترش فنانة سعودية لفظ الجلالة فاعلم أن أُذْن "فان جوخ" قد وصلت إلى وجهتهــا.

مهندسو هذه الموجة من التعلمن انتهجــوا مهاجمة متعمدة للهوية الإسلامية وأهملوا الجوانب الإيجابية المصاحبة للعلمانية مثل احترام الحقوق والحريات وغيرها، فهـذه الموجة الـ "فان جوخية" صاحبتها موجة أخرى موازية من كبح للحريات وحجب للمواقع الإلكترونية واعتقالات بالجملة للشيوخ وأصحاب الرأي.

يبدو أن هؤلاء العلمانيين الجُدُدْ يفكرون بغرائز قوية وبرؤية ثاقبة "تحت الحزام" لإنتاج "علمانية البكيني" كما يسميها البعض، حيث يكون الانحلال الأخلاقي وما يرافقه من سفور وعري وشذوذ معيارًا للتطور، بينما يكون قمع الحريات وقوة القبضة الأمنية معيارًا للاستقرار. فالوطن لديهم بخير ما دام فيه سلطان قوي يحمي الحانات ليبقى فيها الشعب "مسطولاً" ومنتشيًا؛ بينما يدندن شيوخ البلاط فتاويهم الراقصة على الواحدة ونص. ففي "علمانية البكيني" تقاس قوة السلطان بطول شاربـه ويقاس تحضر الدولة بقصر تنورة نسائها.

ولكن يا سعادة السفراء، ويا فخامة الرؤساء وأصحاب الجلالة، ليست هكذا هي العلمانية! فحتى في عقر دارها لا تعني العلمانية معاداة الدين ومحاولة طمسه بل مجرد حياديته، فهي كما قال عنها البريطاني جورج هوليوك "لا يمكن أن تُفهم العلمانية بأنها ضد المسيحية؛ هي فقط مستقلة عنها".

فلا يقاس التحضر بسفور المرأة واعتبارها مجرد "حُرْمَـةٌ" لا اسم لها، بل باحترام عفتها وصيانة حقوقها الكاملة.. أُمًا، وبِنتًا، وأُختًا، وزوجةً.. ولايقاس التحضر بعدد كؤوس الويسكي على موائدنـا، بل بعدد الكتب على أدراج أطفالنا.. ولا يقاس التحضر بعدد مرتادي الحانات، بل بعدد مرتادي صالات الرياضة.. ولا يقاس التحضر بهلوسة الشباب ورقصه ومجونه، بل بمنحهم فرص التعليم والعمل والإبداع.. ولا يقاس التحضر بتشجيع الشذوذ والمثليين، بل بحماية بنيان الأسرة والاعتناء بالعجزة والمعاقين.. ولا يقاس التحضر بالانسلاخ من الجلد ونكران الهوية، بل بالاعتزاز بها وصيانتها، فمن لا يحترم نفسه لا يحترمه الناس.

وأخيــرًا، افعلوا ما شئتم لإثبات "تعلمنـــكم" ولكن دعوا الدين الحنيف وشأنه فأنتم كمن يزرع النخل في سيبيريا أو كمن يربي دبًا قطبيًا في صحراء نجد.. واطمئنـــوا، فَسَتَصِلُ أُذْن "فان جوخ" المقطوعة إلى البيت الأبيض ومعها رسالتكم، ولكنها سوف لن تبني جسورَ حبٍ ومودة بل ستُرمى في القمامة بكل امتعاض وازدراء، ولتستمر تغريدات ترمب المرعبة كوابيسًا تقض مضاجعكم بالليل وهواجسَ تنسجون منها فتاواكم بالنهار.

أضف تعليقك