كنا قد أشرنا في مقالة سابقة إلى أننا في إطار هذه المعركة مع المنظومة الانقلابية صرنا نتعارك مع أنفسنا أكثر مما ندخل في معركة حقيقة مع المنظومة الانقلابية، وما ترتب عليها من تأسيس نظام فاشي بوليسي يروع الناس ويفزعهم ويقتل ويعتقل ويعذب ويطارد كل ذلك يفعله بدم بارد، وأظن أن علة ذلك تنبع إلى الآن من عدم قدرة المعارضين على أن يصطفوا على صعيد واحد لمواجهة هذا النظام الغادر الفاشل، وأن هذا النظام يتعيش من خلال قاعدته الذهبية "فرق تسد"، فإنه يسرح ويمرح ما استطاع وما أراد في مساحات تنازعنا وتفرقنا، ويبدو أن من يصنفون من كونهم معارضين أو مقاومين للانقلاب مع عدم قدرتهم على تلك المواجهة فإنهم يستديرون إلى منطقة الخلاف والتنازع فيما بينهم، فيتنازعون ويهجو بعضهم بعضها ويصل الأمر إلى حد التخوين، فإن هؤلاء فيما لا يستطيعون أن يخوضوا معاركهم الحقيقية فإنهم غالبا ما يخوضون معارك بعضها وهمي وأكثرها مصطنع ومفتعل، والحال كذلك فإن المنقلب ومنظومته ينعمان بكل ما من شأنه يؤكد ويرسخ وجودهما واستمرارهما.
قد يرى البعض هذا التحليل قاسيا ولكنه هو الواقع، وأرى كذلك أن هذا الأمر إنما يشكل تبديدا لطاقة المقاومة وانحرافها في القيام بعملية المواجهة في معركة النفس الطويل، فننشغل بأنفسنا وفيما يحدث بيننا عن مواجهة حقيقية لهذا النظام الفاشي الفاجر، ويسعى النظام من جانبه أن تستمر هذه الحال بينما يفعل ما يريد وهم ينشغلون بمعارك جانبية فيما بينهم، يتسابون ويهجون بعضهم بعضا بل يصل الأمر لتكفير ديني أو تكفير سياسي، وحقيقة الأمر في ذلك أن عدم القدرة على فعل حقيقي قد يؤدي بهؤلاء إلى وهم الفاعلية فيخرجون من دائرة الفعل الحقيقي إذ لا ينجزون أي فعالية في التأثير على النظام الانقلابي إلا من بعض الطقوس الشكلية ومزايدات ومشاحنات كلامية.
مر عليّ كل ذلك شريطا من المشاهد والأحداث تتكرر في كل مرة حينما يحدث حدث رياضي فيؤدي ذلك إلى من يهتم به اهتمام يملأ عليه كيانه وكلامه، وغالبا ما تبدأ المعركة بعد انتهاء المبارة ويتطور المشهد من حالة التنابز بين فريق يحتفل ويفرح وبين فريق يؤثم ويحنق، ولسان حالهم يقول إن هؤلاء إنما يمثلون حالة من التفاهة والخفة، ويبدأ التراشق على الفرح وعدم الفرح ويناقش هؤلاء هذا الأمر، ثم بعد ذلك يخرج فريق يسب الشعب ويهجوه ويؤكد على خنوعه وعلى إمكان غسيل مخه وتعميته عن مقصده وحقيقة فعله، وهنا تزيد نبرة الاتهامات ويبدو الأمر كمعركة وينتقل الأمر من الحدث الحديث الى التراشق والشجار عن الفرح وعدم الفرح.
وينسى هؤلاء بل يتبادلون القسوة على أنفسهم وعلى أقرانهم، ويتبادلون كل صنوف السباب ويبدو بعد ذلك فاصل من "العكننة" يستمر بعض الأيام وتزداد مساحة شقة الاختلاف ويتكرس معنى الشجار والشقاق، وفي هذا المشهد المأساوي تبرز مشاهد أخرى إلى الواجهة ويبرز ما أسميهم بلصوص الفرح، أقول ذلك خاصة أن هؤلاء بفعلتهم الانقلابية الغادرة قد كشفوا عن أمراض جماعية مزمنة كلها تدور حول عدم الثقة وحال من البراءة والتبرؤ، ويبدو ذلك منطقيا في بعض أحواله لما شهدته مصر المحروسة التي صارت على عهد الانقلاب مصر المحبوسة والتي صارت كسجن كبير، يصحو الناس على أخبار بائسة من قتل وتصفية جسدية أو من أحكام إعدام اعتباطية وأحكام من محاكم عسكرية توزع العقوبات بالجملة على كل الشباب من أهل مصر الحرة، ويستحضر الناس كل مشاهد الأسى والدماء ويتحدث على ماذا يفرح هؤلاء.
وفي واقع الأمر فإنني أرى في هذه الحال إشكال ليس باليسير، إشكال يتعلق بأن الغادرين وجوقة الإفك نجحوا في أن يحرموننا من أي فرح أو من أي ممارسة تخرجنا من دائرة الهم والغم التي أصبحت حرفة النظام في توزيعها على كل المواطنين والأنام، فإن هؤلاء جعلوا من الفرح محل تنازع ومحل تراشق وبدا الأمر شديد الخطورة على شبكة العلاقات الاجتماعية التي تؤكد على تماسك الجماعة الوطنية وتقوية أواصر شبكة علاقته المجتمعية والمجتمع، نعم سرقوا منا الفرح واستكثروه على أناس لم يعد يجدوا إلا بؤسا بعد بؤس مما أورث يأسا بعد إحباط.
ومن قوانين اللصوص أو "النشالين" أن يفتعلوا الخناقات والمشاجرات حتى يكون لهم في حال الفوضى والشجار ميدان وبيئة للنشل والسرقة وهذا ما يفعله النظام، فالنظام يتربع ويصدر من البيانات ومذيعي القنوات يستغلون هذا المشهد في إبراز هذا كله أنه الوطنية بعينها ولا شيء غير ذلك، وآخرون يتهمون كل من يفرح بالإستخفاف والخيانة، النظام الفاشي فقط هو من يخرج من هذا المشهد بنشل الفرحة وسرقة عموم الناس فينسب مثل هذا كعادته إلى منظومة الاستبداد والبؤس ويؤكد أنها من إنجازاته المستأنفة والمستجدة والمتراكمة على طول عهده فيضيف هذا الفوز الرياضي إلى سلسلة إنجازاته في غيبة من صانعيه الحقيقيين.
هكذا يفعل العسكر دوما، فعلوه حينما يصادرون الاحتفال بنصر أكتوبر فيجيرونه لأنفسهم وهم لم يشتركوا في حرب ولم يواجهوا العدو يوما، ولكنه بالنسبة لهم هو عيد القوات المسلحة وليس نصرا أكتوبر وكأنهم هم من فعلوه ولم يكلفوا خاطرهم مرة أن يأتوا بأحد من أحياء شاركوا في هذا الحدث بشكل حقيقي وأسهم في صناعة هذا النصر في حرب 73، بل إن بعض هؤلاء هم محل مطاردتهم بل محل الغضب عليهم واستبعادهم، هكذا تكون سرقة الفرح.
نمط آخر من هذه السرقة حينما تستمر هذه المنظومة ضمن خطاب مكرور حول أن على الناس أن يقتصدوا ويشدوا الأحزمة لأننا في مرحلة تزداد فيها الأزمة ويٌستهدف فيها الوطن، وعلى كل مواطن يشعر بذرة الوطنية أن يتحمل حتى لو كان ذلك فوق طاقته ولم يكن في وسعه أو استطاعته، بينما يرى المواطن في مشهد أخر إسراف في حفلات ومهرجانات وسجاد أحمر يفرش وتكديس أسلحة لا يعرف متى تستخدم ومنشآت للرفاهة والترفيه لأهل تلك العصابة أو من يهمهم أمره، فإن طلب هذا المواطن البسيط الذي لم يعد يتحمل أن يرحموه واجهوه بمزيد من الطلب وفرضوا عليه مزيدا من ضرائب ومزيد من غول الغلاء وسعار الأسعار، وتظل تلك المقولة الشهيرة " مش قادر أديك "، إلا أنه من أموال الجباية التي يفرضها ينفق المكافآت على فريق للكرة يأخذ كل منهم المليون أو يزيد، وتبدو المعضلة أن سارق الفرح وهؤلاء العصابة أخذوا من أموالنا إكراها وأنفقوها بذخا وإسرافا، مرة ثانية إن هؤلاء يسرقون الوطن ويسرقون الفرح.
أقول في النهاية أما آن الأوان لكل هؤلاء أن يفهموا ويتفهموا كل نزوع النفس إلى أن تخرج من حال من البؤس إلى حال من الفرح، وأن الناس تلتمس بعضا من هذا من دون أن يعد ذلك انتقاصا من مشاعرهم بالبؤس واليأس من ذلك النظام، فمالنا نحاسب الناس على بعض أفراحهم ونسبهم من أجل ذلك ولا نسب هؤلاء الذين يسرقون كل فرحة في هذا الوطن ويودون أن يشيع الحزن والعفن ، اصطفوا في مواجهة المستبد الفاشي ولا تحرفوا بوصلتكم ولا تسبوا شعبكم فقد يأتي بعد ذلك بشائر فرح أكبر، حينما نتخلص من ذلك النظام الفاشي الأغبر.
أضف تعليقك