لا زالت بعض ذكرياتي عن حرب رمضان- أكتوبر 1973 عالقة في ذهني، ولا تكاد تفارق خيالي، ولعل صورة مدرس التربية الفنية في مدرسة شبرا الخيمة الإعدادية بنين، وكنا نسميه "بابا جدو" لكونه عجوزا أو هكذا بدا لنا وقتها من شعره الطويل والطاقية أو الكاسكت التي تغطي مقدمة رأسه وشاربه الأبيض.
إذ دخل علينا في أول حصة للرسم بعد اندلاع الحرب وطلب من كل واحد فينا أن يرسم وجه جندي مصري يرتدي خوذته فوق رأسه وممسكا سلاحه بكلتا يديه، وهو يهتف الله أكبر في لحظة عبور القناة أو دخول حصن من حصون العدو (هكذا كنا نسميه أيامها).
كنت أيامها ولسنوات بعدها أحب الرسم والخطوط وأعرف إلى حد ما (يناسب سن الثانية عشر) كيف أرسم الوجوه والأماكن، فذهبت إلى البيت وقمت بمراجعة بعض الصور التي نشرت في الصحف أيامها.
وكان أبي عليه رحمة الله يشتري لنا جريدة الأخبار يوميا ومجلة آخر ساعة يوم الأربعاء، وكان رئيس تحريرها على ما أذكر الكاتب الكبير محمد التابعي رحمة الله عليه، ثم شرعت في الرسم بالقلم الرصاص كما طلب الأستاذ بابا جدو وعدت إليه في الحصة التالية كشأن بقية تلاميذ الفصل.
فلما عرضت ما رسمت قال لي: "أنت رسمته ليه غضبان كده"، فقلت له لم أعرف كيف أرسم جنديا يهتف بينما بمقدوري أن أرسمه جادا أو صارما.
المهم أمسك الأستاذ بالورقة والقلم، وقام يتعديل فم الجندي الذي رسمته، فاتضحت الصورة ومزج الأستاذ بين معان كثيرة منها الجدية والشجاعة.
وبدا لي أنه يهتف فعلا، بعد أن فتح الأستاذ فم الجندي المرسوم على ورقة في كراسة الرسم التي لو كنت أعلم أنه سيأتي يوم ليشكك في أننا خضنا حربا ضد الصهاينة لأخرجت له الورقة وأنا أصرخ في وجهه: "خضنا الحرب صغارا وكبارا، والدليل هو هذا الرسم البسيط لتلميذ في الثانية عشر من عمره".
أدركت وفاة عبد الناصر وعمري تسع سنوات، وأدركت حرب أكتوبر وأنا ابن الثانية عشر، حين كنا نجتمع في بيت جدي عليه رحمة الله مع أخوالي وبقية الأحفاد، لنسمع بلهفة الإذاعة البريطانية المعروفة "بي بي سي"، التي اختارها خالي الأصغر "عبد ربه" لتكون مصدرنا الوحيد لمعرفة كيف تسير الحرب، لأنه رحمة الله عليه عاصر حرب 1967، التي كانت إذاعة الزعيم عبد الناصر، تزف بشرى النصر، بينما جنودنا بين أسير ومصاب ومفقود، ودباباتنا وطائراتنا مدمرة على مدارج المطارات العسكرية.
كان خالي عليه رحمة الله من الإخوان المسلمين، الذين حبسهم وعذبهم عبد الناصر بعد أيام من زفافه على عروسه، وقد خرج من سجنه على غير ما دخل من كراهية لكل شيء في البلد.
إلا أنني ولأول مرة أراه فرحا وسعيدا كانت ونحن نلتف حوله ليخبرنا عن أخبار الحرب وقد سمعته وهو يكبر ويهلل مع سماع الأنباء المبشرة لعبور القناة وتوغل قواتنا في أراضي سيناء الحبيبة.
هذا نزر يسير من ذكرياتي وأنا طفل عن حرب أكتوبر التي يريدنا السيسي ومخابراته أن ننساها، أو أن نمحوها من ذاكرتنا، فسلط علينا عملاءه وسفهاءه ليخبرونا أن الحرب لم تكن خدعة كما كنا نعرف، بل هي لعبة أو تمثيلية اتفق فيها السادات والصهاينة عبر وسيط هو هنري كيسنجر، ثعلب الخارجية الأمريكية على مر العصور.
وتم تمثيل المشاهد على الطبيعة، واستشهد آلاف الجنود والضباط، وجرح مثلهم، وأسر ضعف عددهم، من أجل إخراج مشهد الحرب؟؟؟
يريدون أن يظهرونا كأمة عاجزة لا حيلة لها، وحتى النصر الوحيد المعاصر لم نكن نحن من قام به، بل هو مجرد مشاهد تمثيلية قمنا بها لتحريك القضية.
كيف أنسى عبد العاطي صائد الدبابات الذي كان مثالا للشجاعة والبطولة؟ وكيف أنسى من أسر العقيد الصهيوني عساف ياجوري، وهو أكبر رتبة عسكرية يتم أسرها على مدار حروبنا ضد الصهاينة، وقد أسره نقيب اسمه يسري عمارة وجندي اسمه محمد حسان في لحظة شجاعة نادرة؟
لصالح من أنسى جنودنا وضباطنا الذين هتفوا الله أكبر في وجه العدو؟ هل أنساهم لصالح عبد العاطي كفتة صائد الفيروسات؟ أم أنساهم لصالح اللواء الانقلابي الذي صرح بأن مشاريع الجيش المصري وأرباحه هي عرق جبينه وزملائه؟
الشيء الوحيد الذي أوافق عليه، وأفهمه، في كل ما يقال عن هذه الحرب، وهذا النصر، أنه نصر غير مكتمل، وحرب عظيمة ضيع نتائجها ساسة كانوا يبحثون عن مجد شخصي، اعتقدوا أن الحرب لن تصنعه، فهرولوا وراء سلام مزعوم اكتشفنا كلنا بعد أربعة وأربعين عاما أنه سراب بقيعة، يحسبه الظمأن ماء.
فلا سيناء عمرت، ولا الجولان حررت، ولا فلسطين أعيدت، ولا شيء سوى مزيد من السيطرة والهيمنة الصهيونية في المنطقة.
أعلم أنه لا يمكننا خوض الحرب طول العمر، ولكنني أفهم أيضا أننا لا يجب أن نوقف المعركة قبل أن نتأكد من النصر.
وأعلم أيضا أن السادات الذي باع دماء الشهداء قد ظن أنه أذكى من الأمريكان والصهاينة، ولكنه ولفرط غبائه وقع في فخ الخيانة.
حين أتطلع على أوضاع أهالينا في سيناء، أسأل هؤلاء الذين فرحوا وهللوا بعودتها، لماذا لم تعمروها بعد أربعة وأربعين عاما من تحريرها، اللهم إلا إذا كان محرم عليكم تعميرها؟
للأسف الحروب يخوضها المقاتلون، ويساوم بها الساسة، ويبيع دماءها الخونة.
أضف تعليقك