ارتدي بدلته الأنيقة، وكان قد قام بحلاقة ذقنه بطريقة رائعة، جعلت بشرته نضرة تلمع إذا ما صادفها الضوء وواجهها، وبدا في بدلته في غاية الوسامة، والشباب والفتوة، وشعره المسترسل، والذي أضاف إليه الكريم الذي دهنه به لمعة ساحرة، واختبر ابتسامته في المرآة، ونظر إلي أسنانه المصفوفة وبياضها الناصع، فأخذه الزهو بمظهره، وافتعل تلك الحركات التي تُفتعل حينما يزهو الواحد منا بنفسه وهو يختبرها ويستكشفها أمام المرآة وكأنه عالم جديد عليه يراه لأول مره، فرحًا بنفسه، وبوسامته.
تحسس جيوبه ليتأكد أنه لن يضطر إلي الرجوع إذا ما نزل إلي الشارع ليحضر شيئًا نسيه كما يحدث له كل يوم .
ثم فتح حقيبته ليتفقد الملفات التي فيها وليطمئن أن كل شيء في مكانه، ولكنه وجد ملفا ناقصا كان قد أخرجه بالأمس ليأخذ منه بعض البيانات التي يريد أن يحفظها تماما، ولكنه لم يجده، بحث عنه في كل الغرف بطريقة عشوائية سريعة لا تركيز فيها لدرجة أن يده امتدت إليه مرتين ولم يره، بسبب تلهفه للخروج، ليشرق علي الناس بوسامته، ظنًا منه أن الكون قد تعطل وتوقف عن الحركة علي أعتاب بيته وينتظر خروجه لتعود إليه حركته التي توقفت بدخول أخينا هذا إلي بيته منذ الأمس.
لم يهتم بأن يجد الملف، وتناسي قيمته وما يمكن أن يجره علي نفسه من عطلة إذا خرج بدونه لأن جزءًا من الأعمال التي خرج من أجلها متوقفة علي هذا الملف.
ولكن شغفه بأن يخرج حتى يراه الناس في صورته البهية الجميلة جعلته يدقق في كل تفاصيل مظهره، ومراجعته لكل تفصيله فيها مرارًا وتكرارًا.
وتجاوز عن تفاصيل عمله والتدقيق فيها وكذلك تجاوز عن حرصه علي إنجازها بشكل يجعله راضيًا عن نفسه ومحققًا للنجاح بين أقرانه... فلم يهتم بالتفاصيل الدقيقة في عمله كما اهتم بها في مظهره.. استحوذ عليه حُب الظهور، فانشغل به عن كل شيئا.
خرج من باب البيت منمقًا، وحقيبته في يده وخرج خروجًا سينمائيا، حتى يتمكن من تحية الجمهور الذي اصطف منذ البارحة ليشاهد محياه وينال قسطًا من طلته وإشراقته التي حرمهم منها بانزوائه في بيته منذ الأمس، وها هو يحقق لهم أمنياتهم ويخرج عليهم، ولكن حرارة الشمس وسطوع ضوئها ومباشرتها لباب بيته منذ أن طلعت جعلت حدقتاه تضيق فحرمته من رؤية جموع الجماهير ولكنه أصر علي تحصيل المتعة التي ينتظرها فوضع يده علي وجهه ليطرد عنها ضوء الشمس وشعاعها الذي يُعيق رؤيته، فيجد الشارع خاليًا إلا من أكوام القمامة التي كومتها النساء حتى تمر سيارة البلدية لتجمعها كما تفعل كل يوم، فأخذ يسبهن ويلعنهن علي قدرتهن وسحرهن واتصالهن بالجن ليحول جمهوره الذي ينتظره إلي أكوامًا من القمامة.
تلفت يمينًا ويسارًا في حركة تنم عن عظمة وتعالٍ يسكنان نفسه ويعربدان فيها، ثم امتدت يده إلي رابطة عنقه وشدها من عقدتها لأسفل باحثًا لعنقه عن متسع بعد أن تضخم غيظًا من سحر النساء ومن أكياس القمامة التي كانت بالأمس جمهورًا عريضًا ينبض بالحياة.
مشي بضع خطوات حيث محطة الترام الذي سيقله إلي وسط البلد حيث يعمل، وقف قليلًا وأخذ يتفرس فيمن حوله، ويدور في نفسه هذا النقد لمن حوله، ما هذا اللون الذي يرتديه هذا الرجل، وكيف يرتدي هذا القميص علي هذا البنطال، وما هذا أيضًا، ما الذي يضعه هذا الرجل علي شعره حتى يبدو بهذه اللزوجة، وما هؤلاء الناس، ويسأل نفسه في حسرة أين ذهبت الأناقة وأين تاهت علامات الجمال، وكيف تدنت أذواق الناس إلي هذا الحد ، ولكنه يفيق قبل أن يجد إجابة علي هذه الأسئلة، يفيق علي صوت الترام وقد وصل ولا مكان فيه لموضع قدم ولكنه يتسلق الناس حتى يتمكن من الدخول في وسط العربة الثانية، ويقف بجوار أحد الكراسي، ليلمح أحد الركاب يتهمهم ويستعد للنزول فيطير ليجلس مكانه فمشواره طويل.
ولكن في المحطة التالية ينزل أحد الجالسين في الكرسي الذي يليه، فيسارع ليجلس فيه فلا ينافسه عليه أحد لمهابته، ويجلس قُبالة أحد السيدات فينظر إليها ليجدها تتفرسه بنظرها، وتقلبه بنظرها تقليبًا، وعلامات تبدو علي وجهها قد حار هو في تفسيرها، وتُكرر النظر ثم تُطرق إلي الأرض ثم تعاود النظر فيه مرة أخري ثم تُطرق إلي الأرض، حتى أخذ الفكر يلعب برأسه وأخذ يستجمع قواه ليتحدث معها فلربما...
ولكن قبل أن يكمل الفكر لَعبه برأسه، يتوقف الترام في محطته قبل الأخيرة لتنزل هذه السيدة، وهي تضع يدها علي فمها لتخبئ ضحكة تريد أن تنفجر مجلجلة.
وتنزل تاركة لأفكاره ، من هذه ؟
ولماذا كل هذه النظرات وهذا التحديق ؟
ولماذا نزلت وهي تكتم مشاعرها ؟ يقصد ضحكاتها..
ثم اطرق واضعًا رأسه بين رجليه ناظرًا في الأر، ليفكر ويفكر، ثم يحبس أنفاسه حتى لا يصرخ مما رآه مصدومًا فعاود النظر مرة بعد مرة وتحقق مما رآه... فالحذاء الذي يرتديه تأكد له أن الفردتين شمال..
أضف تعليقك