سقط بيت المقدس، بكل ما يمثله للعالم الإسلامي، والمسيحى أيضاً، من قيمة دينية وروحية، بمسجده الأقصى مسرى رسول الله (ص)، ورمزيته للمسلمين، وكنيسة القيامة ورمزيتها للمسيحيين، تحت احتلال العدو الإسرائيلى كاملة منذ نصف قرن، عندما اجتاحت قواته الشطر الشرقي من المدينة مع باقى أرض فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، خلال حرب يونيو/ حزيران 1967، وكانت قد اغتصبت الشطر الغربى من المدينة المقدسة في حرب فلسطين الأولى عام 1948، ولم يقتصر الاحتلال الصهيوني خلال حرب 1967 على بيت المقدس ضمن كل فلسطين، لكنه امتد ليشمل أراضي عربية أخرى، هضبة الجولان في سورية، وشبه جزيرة سيناء، وجزرها، التي كان أبرزَها تيران وصنافير المصريتان، وكذلك مزارع شبعا وقرية الغجر فى جنوب لبنان. منذ ذلك الوقت، اتسعت رقعة الصراع العربى – الإسرائيلي، ولم يعد مقصوراً على استرداد ذلك الجزء من أرض فلسطين الذي أقامت عليه الحركة الصهيونية العالمية الكيان الذي تحول إلى دولة إسرائيل، وكان يضم الشطر الغربي من مدينة القدس، بل اتسع ليصبح تحرير كل فلسطين، والأرض العربية في ثلاث دول أخرى. ومن هنا، اتخذ الصراع مسمىً جديدا في ذلك الوقت، هو "مشكلة الشرق الأوسط"، وانشغل العالم بالبحث لها عن حل. ولم يكن ذلك في مصلحة القضية الفلسطينية، ولا قضية بيت المقدس، والتي توارت في زخم الحديث عن مشكلة الشرق الأوسط، وتم اختزال تلك القضية في إنشاء لجنة القدس، والتي اتخذت مقراً لها في المملكة المغربية، ويرأسها ملك المغرب، وكان الهدف منها إبقاء قضية القدس حية، والعمل على حشد الجهود وتعبئتها، والإمكانات، للحفاظ على طابع المدينة العربي والإسلامي، والتصدي لمحاولات العدو الإسرائيلى لتهويد المدينة، بعد إعلان توحيدها، واتخاذها عاصمة أبدية للدولة العبرية.
ومنذ ذلك التاريخ الذي سقط فيه بيت المقدس بأيدى بني صهيون، وعلى مدى خمسين عاماً، دارت عجلة الزمن، وأنتج العرب مئات الأغاني، والأهازيج، والأناشيد التي تناجي القدس، وتدغدغ المشاعر، وارتفعت عشرات الشعارات الصارخة التي تتوعد العدو الإسرائيلي بأننا على القدس رايحين بالملايين. وعلى المدى الزمني نفسه، كان العدو الإسرائيلي لا يتوقف عن تنفيذ خططه الاستيطانية، والتهويدية، والتي لم تقتصر على بيت المقدس التي تم توحيد شطريها، وغير معالمها العربية والإسلامية، وأقام فيها، خصوصا الشطر الشرقي الذي يضم المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة عشرات الأحياء الاستيطانية، وحفر الأنفاق أسفل المسجد الأقصى، بحثا عن هيكل سليمان الذي يزعمون وجوده أسفل ساحة المسجد، وأقاموا المتاحف اليهودية، وأباحوا تجوّل اليهود داخل باحة المسجد وساحاته. ولم يبق للعرب الفلسطينيين المقدسيين سوى بعض من أحياء المدينة القديمة، ويجري التضييق عليهم بشتى الطرق، للتخلي عن بيوتهم وأرضهم. ولم يعد بإمكان الفلسطينيين من سكان الضفة الغربية دخول المدينة، حتى للصلاة فى المسجد الأقصى، من دون تصريح من سلطات الاحتلال ودونه مشقة كبيرة.
امتدت تلك الخطط الاستيطانية التهويدية إلى كل مناطق الضفة الغربية التي يطلق عليها العدو اسما يهوديا، هو يهودا والسامرة، ناهيك عن أوضاع قطاع غزة.
وكان العدو الإسرائيلي قد نجح في تجاوز ما كانت تعرف بمشكلة الشرق الأوسط، في أعقاب حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وعملية السلام مع مصر، ثم تجاوز قضية الصراع العربي – الإسرائيلي، بعد عملية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993، ثم معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، وتم اختزال القضية في مشكلة فلسطينية، المعني بها سلطة حكم ذاتي فلسطيني مؤقتة في رام الله، خاضعة لمتطلبات التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ورفعت شعار لا صوت يعلو على صوت "عملية السلام".
في وسط هذا الزخم من الهرولة نحو المهادنة والمصالحة العربية مع العدو الإسرائيلي، برزت حركة حماس، ومعها منظمات فلسطينية ترفع راية المقاومة، وأقدمت على ما أطلقت عليه الحسم في قطاع غزة في العام 2006، وخرجت من عباءة سلطة رام الله، فكان الحصار، وكانت الحروب المتتالية والدمار، حتى بلغ الأمر منتهاه في ظل إرهاصات ما أطلق عليها صفقة القرن، لتصفية القضية الفلسطينية، وكان لابد من عودة القطاع إلى سلطة رام الله. وعند ذلك، تم تضييق الحصار على قطاع غزة وسلطة حماس بشكل تام وخانق، من كل الأطراف المعنية، إسرائيلية وفلسطينية وعربية وإقليمية، في ظل حالة من التصدع والإضطراب تسود المنطقة. وانتهى الأمر، أخيراً، برفع "حماس" يدها عن القطاع، ودعوة الرئيس محمود عباس لإدارته. وحافظت "حماس" على الحد الأدنى من طموحها الوطني، بإعلان تمسكها بموقفها حركة مقاومة للاحتلال، بعيدا عن السلطة.
أين بيت المقدس من ذلك كله، وهل لازالت الدعوة إلى التحرير قائمة؟ وهل التحرير ممكن؟ والسؤال الأهم هو من سيحرّر بيت المقدس؟ العرب مشغولون بقتال بعضهم بعضا، وملوك وأمراء ورؤساء مشغولون بحماية عروشهم وكراسي الحكم، ولو بدعم من يحتلون بيت المقدس، والجماهير العربية في غالبيتها مشغولة بالاحتفالات الصاخبة لوصول فرقها لكرة القدم إلى المونديال فى روسيا عام 2018، وتعتبر ذلك هو الانتصار.
هل علينا أن ننتظر عودة صلاح الدين الأيوبي لتحرير بيت المقدس، وإن كان ذلك مجرد حلم أو وهم علينا أن نتذكّر حقيقة أن صلاح الدين دخل بيت المقدس، بعد أن قامت عليها مملكة صليبية نحو قرن، ولم يدخلها فاتحاً، بل مهادناً بعد انتصاره في معركة حطين في 2 يوليو/ تموز عام 1187، واتجه بعدها إلى محاصرة بيت المقدس التي استمرت من 20 سبتمبر/ أيلول وحتى 2 أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، ودخلها بعد تفاوض وتعهد منه بالعفو عمّن تبقوا فيها من مقاتلين صليبيين، وأعطى الأمان لأهلها، ولكن الأمر لم ينته عند ذلك، فقد جهز ملوك أوروبا الحملة الصليبية الثالثة التي قادها ملك بريطانيا، ريتشارد الأول الملقب بقلب الأسد، وفيليب أغسطس ملك فرنسا، ووصلت إلى سواحل فلسطين في العام 1191، وقابلها صلاح الدين في معركة أرسوف، في سبتمبر/ أيلول، والتى انتهت بخسارته المعركة، لكنه نجح فى إيقاف تقدّم الحملة إلى بيت المقدس. واستمر القتال ما بين كرّ وفر طوال عام، حتى أيقن ريتشارد بعدم جدوى الاستمرار، وانتهى الأمر بتوقيع اتفاقية للصلح فى سبتمبر/ أيلول 1192، تعود بمقتضاها الحملة الصليبية من حيث أتت، مع تعهد صلاح الدين بأن تكون بيت المقدس مدينة مفتوحة لكل الأديان السماوية الثلاثة.
لم يكن تحرير بيت المقدس، ولن يكون، سهلاً، لكنه ليس مستحيلاً، مهما طال الاحتلال، طالما بقيت روح المقاومة حية، حتى إذا حوصرت وتضاءلت تحت وطأة الحصار، وصفقات القرن، فحتما سيخرج من رحمها، يوماً ما، صلاح الدين جديد، يوقظ روح الجهاد، ويدخل بيت المقدس محرّرا، بإذن الله.
أضف تعليقك