خلال هذا الأسبوع شهدت مصر حدثين مهمين يُحسبان على الأحداث ذات الوزن الدولي، الأول هو تصفيات أفريقيا المؤهلة لكأس العالم في روسيا 2018 التي حجز المنتخب المصري بطاقة التأهل فيها بعد فوزه في مباراته قبل الأخيرة في مجموعته، والثاني هو الانتخابات على مقعد رئاسة اليونسكو التي دفعت فيها مصر بوزيرة سابقة هي مشيرة خطاب وانتهت أول ثلاث جولات من التصويت حتى كتابة هذه السطور، ومن المفترض أن تُحسم يوم الجمعة النتائج النهائية.
وعلى الرغم من عدم تقاطع الحدثين على مستوى الشعبية وحجم الاهتمام الجماهيري ونوعية المتابعين فإن الإعلام المصري أفرد لكليهما مساحات كبيرة وسلّط الضوء عليهما بكثافة، باعتبار أن تحقق النجاح فيهما يُعدّ حدثا دوليا.
عند هذا الحد يمكن تفهّم هذه الضجة وهذا الاهتمام، لكن حالة "الهيستريا" الوطنية التي صاحبت الحدثين كانت لافتة ليس على المستوى النظام وإعلامه فقط، بل في النقاشات التي دارات على مواقع التواصل الاجتماعي بين كثيرين غير محسوبين على النظام.
مباراة التصفيات
مصدر هذا الجدل في حالة المباراة كان منبعه هو رفض قطاع من الناس فكرة اعتبار الفوز والصعود إلى كأس العالم هو أمر "مصيري" يستدعي التلهف ويمثل نصرا "لمصر" وتقدما لها، مع التنبيه إلى استخدام كرة القدم كأداة للإلهاء وتغييب الوعي ومع الإشارة إلى السياق العام المُغرق في الفقر والقمع والاستبداد، الأمر الذي يجعل أي مبالغة في تقدير المباراة ونتيجتها محل شك، لكن البعض قابل هذا الرأي باستهجان كبير على قاعدة أن المنتخب يلعب باسم مصر وليس باسم النظام، وأن نجاحه يسعد الناس ويدخل على قلبهم سرورا يحتاجونه في واقعهم البائس.
ولا أذيع سرا حين أقول إنني ممن ينحازون إلى الموقف الأول ولا أرى ربطا بين حب الوطن وبين منتخب الكرة، فهذه "وطنية زائفة"، ولا أعتقد أن ثمة تقدما لمصر حادث طالما ظل الفساد والإهمال والديكتاتورية جاثمة على روح الوطن، لكن التماهي مع سلوك النظام وتضخيم حدث مثل هذا وربطه بالانتماء الوطني لا يخدم سوى النظام الذي يستثمر تلك الأحداث في الترويج والدعاية لنفسه وما يعتبره إنجازا محسوبا له.
لا أحد يرغب في أن يحزن الناس أو ألا ينجح وطنه، لكن في نفس الوقت لا أرغب في تسمية الأشياء بغير مسمياتها، فمن ينتظر أن تنتقل الوطنية بكل أريحية من خلال كرة القدم إلى المواطن المُهان داخل المواصلات غير الآدمية وداخل أقسام الشرطة لصالح أبناء الواصلين والمتنفذين، فضلا عن المعتقلين والقتلى من مشجعي الألتراس مع تردي الأوضاع الاقتصادية هو شخص واهم، فترسيخ الانتماء له محدداته التي على رأسها ترتيب الأولويات المعيشية والحقوقية التي تكفل للمواطن كرامته وآدميته.
اليونسكو
أمر مشابه حدث خلال انتخابات رئاسة اليونسكو، مع فارق الاهتمام الجماهيري من حيث العدد ونوع الجمهور، حيث رأى قطاع من الحقوقيين المصريين ممثلين في 8 منظمات حقوقية أن مشيرة خطاب لا تستحق الفوز أو الترشح بالمنصب باعتبارها ممثلة لدولة لا تحترم الحقوق الثقافية وحرية التعبير، وأصدروا بيانا بهذا الشأن، الأمر الذي وضعهم تحت دائرة التخوين والتشكيك في الانتماءء على الرغم من عدم مساندتهم لمرشح بعينه ضدها.
إذن كانت الوطنية "الزائفة" حاضرة هنا أيضا بنسختها "الهيستيرية"، فمشيرة خطاب هي ممثلة للنظام وليس لمصر، ورفض النظام وممارسته أو رفض أحد ممثليه أن يكون هو ممثلا عن مصر، ولا أحد ينتظر هنا أن يترسخ الانتماء على يد سيدة صمتت على إغلاق المكتبات وحرق الكتب وسجن القُصّر والنساء، وتؤيد نظاما قمعيا كهذا، إن من ينتظر ذلك هو واهم أيضا.
خلاصة القول
إن ما يحاول النظام فعله منذ انقلاب (يوليو/تموز) 2013 وعلينا أن ندركه جيدا هو محاولة احتكار مفهوم ومعنى الوطنية ورسم معيار لها لا ينجح فيه صاحبه إلا إذا صدّق على كل ما قاله أو نسب كل إنجاز إليه واعتبر أن "مصر النظام" هي "مصر الدولة"، فعليك أن تفرح وقت أن يقرروا ذلك وأن يكون الإنجاز المتحقق منسوب إليهم، وإذا كنت غير مكترث بما يفعل أو منتقدا أو كان لديك موقف معارض وترى أن ثمة ترتيبا للأولويات مغاير لما يتفق عليه النظام والآخرون فأنت لا تريد رفعة الوطن.
الوطنية الزائفة هي إحدى سمات الأنظمة الشمولية والقمعية، وتسمية الأشياء بمسمياتها وإبراز الأولويات الوطنية والاهتمام بمؤشرات الصحة والتعليم والتداول السلمي للسلطة والأجور العادلة والحريات هو المعيار الرئيس للوطنية، وهو الدليل العملي على حب الوطن وليس الأشخاص ولا الأفراح العابرة التي لا تعود على المواطن بشيء.
أضف تعليقك