تمر الأيام وتتوالي الأحداث ، وتتكشف الحُجب ، وتبدو الحقائق التي كانت خافية علي الجميع ، وبينما تسدل الستائر علي أحداث وحقب ، إلا أنها ترتفع عن نفوسٍ وقلوبٍ لتكشف لنا أمورًا ما كنا لنعلمها لولا توالي الأحداث وتسارعها بهذا الشكل وبهذه الطريقة ، تكشف لنا عن أمور وعن شخوص تجعلنا مذهولين أمام ما عرفناه وما ألفناه ، وما عشنا نقدسه ونحافظ عليه وندافع عنه دفاع المستميت الذي يشعر أن بقاءه مرتهن ببقاء وسلامة هؤلاء فَتَحَتَّم عليه وتوجب الدفاع عنهم ، كما كانت هناك أشخاص تحترمها لدرجة أنك تسجل اللحظة والتاريخ اللذين قابلتهم فيها لاستشعارك أنها لحظة تاريخية من حياتك ؛ يجب أن تُدون ، بينما لو علمت عنهم حينها ما تعلمه الآن لاغتسلت من مجرد رؤيتك لهم سبع مرات إحداهن بالتراب .
وهكذا المِحن تظهر معادن الرجال ، حيث تصهرهم بلظاها فتفصل الخبث عن الثمين والذهب ، ليحيا من حيَّ عن بينة.
فكيف كنا سنظل نحترم ونستمع بإصغاء لمن كنا نظنهم رجالًا وهم في قرارة أنفسهم إمعات ، خدعونا وانخدعنا بهم ، واشتعلت رؤوسهم شيبًا وهم يعملون لغير الله ، ونحن نظن أن أماكنهم في الجنة يذهبون إليها ليلًا ليبتوا فيها عند ربهم ، والأدلة الدامغة هي من دفعتني لقول ذلك ، فأنا لا أتهمهم ؛ بل فضحتهم أعمالهم وأقوالهم حينما كشفت المحنةُ عن ساقيها .
فكنا نستمع لأحاديث بعضهم عبر شاشات التلفاز وتدمع عيوننا من ورعهم وتقواهم ومن نقط الضوء التي كانت تُسلط علي وجههم ليبدون لنا وكأنهم هبطوا من جنات النعيم لتوهم.
وكنا لا نخاف من تلفيق التُهم ، ظنًا منا أن هناك خلفنا نيابة عن المجتمع تدفع عنا تعدي الصائلين ، وكنا نوقرهم جميعًا وننظر إليهم بعين الفخر متمنين لأبنائنا مكانة سامقة مثلهم ، ولكن حينما كشفت المحنة عن ساقيها ، تساقطت عن وجوههم وأخلاقهم الحُجب وعلمناهم ذئابًا ، وكلما أراد المجرمون نهش أحدنا ، جردوه وأمام النيابة العامة التي تأخذ أوامرهم من أراذل القوم وضعوه ؛ فتقوم بقبح أعمالها معه بالوكالة كأخس ما تكون الوكالة وينعدم الضمير ويتم تسليمه طواعية لدفنه في مقابر سلطة أمن الدولة.
وكان حينما يتهمهم أحد بالفساد نقول لا و كلا وحاشاهم ، فهم حصون العدل وقلاع الحرية في بلادنا ..وعرفنا أننا مخطئين حينما كشفت المحنة عن ساقيها..
ورجال من ذهب كنا نظنهم ، وكان حينما يتصادف وجودنا مع أحدهم ببزته العسكرية نقوم ونجلسه إجلالًا له ولمكانته ولدوره ، علي الرغم من أن معظمنا قضي سنة أو أكثر خدمة في الجيش ونعرف حقيقتهم ولكننا نُجبر أنفسنا علي احترامهم ونقول عسي أن نكون نحن المخطئين؛ كنا كمن يعلم رسوب ابنه في الامتحان ووثائق فشله بين يديه ولكنه يدفنها بين طيات آماله وأمنياته في ولده.. عساه أن يتوب.. كيف كنا سنعلم أنهم بهذا العنف لا علي أعدائنا بل علينا ، كيف سنعلم أن صناديق الذخيرة التي أفرغوها في ميادين الرماية تدريبًا ؛ إنما هي حتى لا يخطئوا إذا ما حانت اللحظة وأُعلنوا ساعة الصفر في حرب أبناء الوطن وانقلبوا علينا..
كنا نقول إلا هؤلاء ، كفوا أيديكم عنهم ، ونحن كنا نعلم ولكن تأكدنا حينما كشفت المحنة عن ساقيها.
والأئمة الذين كنا نقدمهم في مساجدنا ، ونقف إجلالًا لهم ولا نرد لهم طلبًا ولا وشفاعة ولا وساطة ، كيف كنا سنعرف أننا عشنا سنينًا في الخداع ، كيف سلمنا لهم عقولنا طواعية ، وهم يملون علينا من النصوص الصحيحة التي طوعوها ولوٌوْا أعناقها ، حسب إرادة أبيهم الذي في مكاتب أمن الدولة وبين أسوارها العالية يعيش... بدت الحقائق فقط حينما كشفت المحنة عن ساقيها ، فغوت من غوت وسار خلفها وفي ركابها من سار... حتى إلي الآن كلما زادت المحنة تكشفت لنا أمورًا كنا نحسبها صامدة وهي تمر مر السحاب...
أي مجتمع هذا الذي نعيش فيه ، بل أي احتراف هذا للخداع ، مهارات فريدة استحال معها أن نخترق تلك الحجب وهذا الجلال الذي كانوا يزينون به أنفسهم ونصل إلي مكنون سوءات نفوسهم وعورات قلوبهم..
بل وأي سذاجة تلك التي كنا نتعامل بها معهم ، كيف خدعونا في أبسط الأمور التي كنا نظن أنها تحدث تلقائيًا ولكن الحقيقة أنها كانت مدبرة لإحداث فتق في اليقين ورتق في الوهم والخداع.
ولكن هي السنن التي لا تحابي ، فلن تستطيع خداع الناس طوال الوقت ، فلا بد من تلك المحن التي تهز المجتمعات هزًا ، حتى تنفصل الخبائث ، عن الزبد الذي حتمًا سيذهب جُفاءً.
فلا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم ، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم... فقط شاهدوا وادعوا ألا تُغرينا سيقان الفتنة وننجرف خلفها ..ونرد علي أعقابنا بعد أن هدانا الله...
أضف تعليقك