لئن كان لبعض الأحداث ذكريات في النفس تظل محفورة في الذاكرة، لاتجرؤ الأيام ولا السنون على محوها مهما تقادمت..
فتراها تطل بين الفينة والأخرى كلما عبر المجال الفكري أو البصري أمثالها أو نظائرها، فإن لبعض الكلمات وقعا ورنينا-أيضا- يثير شجون النفس ويحرك فيها الرواكد وربما انفتحت بها قلوب مغاليق.
ومن أقوى تلك الكلمات أثرا وأثراها معنى وأعظمها وقعا ماكتبته السيدة نفيسة -رضي الله عنها- لأحمد بن طولون..
كلمات ماوقعت على سمع ظالم إلازلزلت أركانه وحطمت جبروته وأعادته إلى رشده وصوابه مابقيت عنده مسكة من عقل وذرة من رحمات.
على رقعة كتبت:
"ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخولتم فعسفتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم هذا، وقد علمتم أن سهام الأسحار غير مخطئة.. ولاسيما من قلوب أوجعتموها وأكباد جوعتموها، وأجساد عذبتموها..
فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ماشئتم فإنا صابرون ثابتون، وجوروا
فإنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" فعدل الحاكم حينها حين قرأها..
وعندما مر بخاطري حالنا الآن وحال إخوتنا المأسورين لدى مايسمون "أشقاء الوطن" ! منذ بضع سنين.. استوقفتني الكلمات بقوتها، فاستلهمت المعانيواستوعبت.
فهالني ماتفيض به من قوة تعبير وعظم نذير لتقشعر منه الأبدان وخلت أنني معهم أرددها في الظلمتين ظلمة الليل وظلمة السجن وظلمه ومابينها وبين الله حجاب، فأيقنت أنها مجابة لامحالة..
إنها كلمات تكسو القلب طمأنينة، وتضفي على النفس سكينة.. تعيد صبرًا مفقودًا
وحلما معهودًا وتجدد أملا معقودًا، فتقر بها الأعين وتهون معها الضيق والظلم.
ثم تذكرت تلك الأم التي استطاعت أن تستشرف اليسر في ذروة العسر، وترى النور بقلبها في ظلمة الصحراء. وتدرك أن الفرج آت رغم دائرة الكرب التي حاصرتها هي وصغيرها، حيث تركها الأب إمتثالا لأمر الله..
فامتثلت هي أيضا مستبشرة بأن الله لن يضيعها !
وتلك الطاهرة النقية التي تحملت أقسى بلاء، وتلقت طعنات الإفك، دون أن تهتز ثقتها هنيهة في أن الخالق سيجلي براءتها، رغم حبكة الفرية وشهادات العصبة الظالمة.. بل وبرغم بعض الصمت الذي خيم على قلب الزوج المحب !
وتوقفت كثيرا.. عند زوجة الطاغية تلك الفولاذية التي وقفت في وجه زوجها..
أين تعلمت دروس الصمود والثبات، واستعصمت بهما في أصعب الإختيارات، فلم تفرط في عقيدتها ولم يتسرب إلى نفسها القوية أدنى شك في أنها على الحق فاستحقت أن يخلد ذكرها في أكرم كتاب نموذجا للمرأة المؤمنة !
وآسرتني تلك الأم الثكلى التي لم تفقد عقلها -وقد مات في لحظة قرة عينها.. أبناؤها الأربعة- دفعة واحدة- وخلت حياتها الدنيا منهم !
بل شدت على قلبها وثاق الصبر، واستشرفت يوم تلقاهم في الجنان بلا فراق، وهي المرأة الشاعرة مرهفة الحس التي كادت أن تقتل نفسها حزنا على شقيقها، وقد رثته بسيل من دموع الشعر الذي تقطر حروفه حزنا ولوعة ولكن حدثا فاصلا في حياته.. حولها من أخت مكلومة إلى أم صامدة عجز الموت أن يمس ثباتها وقوة إيمانها..
ثم ساءلتني نفسي ؟.. أليس ماذكرت من نماذج نون النسوة تلك قامات سامقة في العزة والسمو والإباء .. ماالذي جمع بينهن وجعلهن نماذج فذة "قدوات" لكل زمان .. بيسر إجابة.. إنه الثبات واليقين، الثبات على المبدأ والطريق والإختيار واليقين بأن ماعند الله خير وأبقى
بهاتين القيمتين وحدهما استطاعت هؤلاء النساء -وغيرهن كثيرات- الآن، أن يصبحن آيات في العظمة وقوة النفس وصلابة الروح..
لم يتساقطن في حلبة الإبتلاءات، ولم تفتنهن الدنيا ولم يؤثرن السلامة ويسرن بجوار الحائط خائفات من سرب المستضعفات !
وكذلك فإن لنا "رجالات" في ظلمة السجون شبابا كانوا أو فتيات .. أي شجاعة تداني شجاعتهم، ألم تر كيف ضربوا الأمثال في التضحية والثبات والإيثار !
وهل أتاك صنيعهم حين الغدر، إنهم قاوموا وصمدوا ماوهنوا ومااستكانوا وماولوا الأدبار حين قصرت الأعنة واستجرت الأسنة، وتنازل الأقران.
أما لذوي وأهل هؤلاء الرجالات، فلهم حقا أن يفخروا.. فمن أصلابهم أنجبوا هؤلاء الرجال الأفذاذ. فطوبى لهم ونصر قريب وعود بإذنه
ولله در البحتري حين قال:
وماهذه الأيام إلامنازل
فمن منزل رحب إلى منزل ضنك
وقد هذبتك الحادثات وإنما
صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبك
أما في رسول الله يوسف أسوة
لمثلك محبوسا على الظلم والإفك
أقام جميل الصبر في الحبس برهة
فآل به الصبر الجميل إلى الملك
أضف تعليقك