قالت العرب "الحرامي وشيلته"، أي أن "اللص وما يحمل"، فعندما تقع "الفأس في الرأس" لا يمكن له أن ينفي علاقته بالمسروقات، أو أن يلقي بالاتهام على غيره، فالتلبس هو أهم أدلة الإدانة وأقواها بعد الاعتراف!
وها هو "أحمد موسى" يقع في شر أعماله، من خلال تسجيل يحتوي على اعترافات من طبيب، عن حادث الواحات، قدم له "موسى" باحتشاد عاطفي، وبصوت خفيض، ليجذب تعاطف الناس، فكان كالدبة التي قتلت صاحبها، وعزز من الأزمة أن قناة "الجزيرة"، قد أذاعت هذا التسجيل، وبإذاعتها له رأى القوم أنه دليل إدانة، لا يمحوها سوى توقيع العقاب على "أحمد موسي"، فقررت نقابة الإعلاميين وقف برنامجه إلى حين التحقيق معه، في هذه الجريمة التي رأت النقابة أنها تضر بالأمن القومي!
الطبيب، كما جاء في التسجيل ينقل شهادة مصابي الحادث، وكيف أن القوة التي ذهبت لتقبض على الجناة، تم التغرير بها من قبل "مرشد أمني"، نصب لها كمينا، لتفاجأ بالمسلحين وقد استخدموا في مواجهتهم الأسلحة الثقيلة، وأمروا عناصر القوة أن يلقوا الأسلحة ففعلوا، وبالانبطاح فاستجابوا، ثم قاموا بقتل الضباط منهم بدم بارد، وأصابوا الجنود اصابات تعجيزية، وقاموا بأسر أحد الضباط، ولم يأت المدد للمصابين ليلة بطولها، وقد فقدوا الاتصال بالمكلف باستقبال اتصالاتهم، ولم يمثل لهذه الجهة انقطاع الاتصالات انذاراً بتعرض الفرقة للخطر، وأنها وقعت في قبضة المسلحين.
وبهذا التسجيل فإن حزمة من الأسئلة تطرح نفسها: فلماذا لم يظهر الطبيب صوتاً وصورة، ولماذا لم يكن ضيفاً على أحمد موسى في الأستوديو؟.. وهل كان الظهور صوتا فقط بناء على رغبته، إن كانت شهادته حقيقية؟ وإذا كانت مفبركة فلمصلحة من تمت فبركتها، وبإمكان "موسى" بحكم علاقته الأمنية المعروفة للجنين في بطن أمه، أن يتحقق من شخصية الطبيب؟.. ولماذا لم يقدم للمحاكمة بتهمة نشر أخبار كاذبة، إن كان التسجيل جرى تزييفه، أو أن هناك من ضلله؟!.. ولماذا لم يتم التحصل على شهادات المصابين حتى الآن، والذين لم يظهروا عبر وسائل الإعلام حتى كتابة هذه السطور، ولم يزرهم أي مسؤول كما هي العادة!
في تقديري أن "موسى" لا يمكنه الاجتهاد في قضية حساسة مثل حادث الواحات، ومن الواضح أن تعجيله ببرنامجه "على مسؤوليتي" ليكون صباح السبت، ولم ينتظر موعده الطبيعي في المساء، بعد يوم الصمت، دليل على أن ظهوره كان قرارا أمنيا، وقد ظلت القنوات التلفزيونية في مصر تتجاهل الحدث على فظاعته في اليوم السابق، فالإعلام في مصر مسير لا مخير، وهو لا يتحرك إلا بالأوامر العليا، فلما لم تصدر له الأوامر فقد اعتبر أن حادثاً كبيراً وصفه الفريق أحمد شفيق بـ "المعركة العسكرية"، لا شيء!
هل كان التسجيل، هو سوء تقدير من الجهاز الأمني الملحق به "أحمد موسى"، فعندما وقعت الواقعة كان القرار "الحرامي وشيلته؟"، وفي نفس اليوم نشر "مصطفي بكري" أن هناك مخطوفين في قبضة المسلحين، ولا يمكن أن يفعل إلا بالتنسيق الأمني، لكن بعد استنكار هذا النشر عاد وتراجع وقال بعدم وجود مختطفين، وهو ما تأكد عدم دقته فهناك ضابط مختطف، وربما هذه هى المعلومة الوحيدة التي تم التأكد من صحتها من الشهادة المنسوبة للطبيب، وقد كتب والده على مواقع التواصل الاجتماعي: "أين ابني يا مصر"!
لفهم الحالة الإعلامية المصرية، يمكن القول إن نجوم المرحلة يتبعون الجهات الأمنية، فكل منهم يعمل عند "كفيل أمني"، من هذه الأجهزة، ومنهم من هم متعددي الولاءات، لكن "تمامه" بالمفهوم العسكري عند الجهة التابع لها، وجانب من أزمة "توفيق عكاشة" مثلاً، أنه انتقل من التبعية لجهاز إلى جهاز آخر، وهو أمر يمثل اخلالا بالقيم الحاكمة لمهنة "التابع الأمني"، لا يمكن التساهل معها!
بطبيعة الحال، فإن "عباس كامل" مدير مكتب عبد الفتاح السيسي، يقوم بعملية التسيير اليومي لبرامج "التوك شو"، سواء برسم الخطوط العريضة، أو بتحديد البوصلة عند معالجة حدث معين، وقد يكون التوجيه بعبارة، يتم تردديها في كل البرامج، فتبدو كما لو كانت "كلمة سر الليل"، وهو ما يضبطهم متلبسين به أي مراقب، من برامج الفكاهة التي تقوم على مراقبة أداء الأذرع الإعلامية للانقلاب، مثل برنامج "يوسف حسين" على "التلفزيون العربي"، وفي بعض الأحداث يختفي "عباس كامل"، لعدم قدرته على التقدير أو التصرف، فيعود كل مذيع إلى "كفيله الأمني"!
ولأن حادث الواحات يخص وزارة الداخلية، ولأن "عباس كامل" يبدو خارج نطاق الخدمة، هو ورئيسه، لأنه أكبر من قدرتهما على التصرف والاستيعاب، فعاد كل اعلامي إلى الكفيل المباشر، وربما يكون هذا التسجيل المنسوب للضابط مرده إلى سوء التقدير من قبل من يديرون "أحمد موسى" تماماً مثل سوء التقدير في تسريب معلومة وجود ضباط في قبضة المتطرفين، ويبدو أن الهدف من التسريب كان التأكيد على قوة التنظيمات المسلحة، وعدم جواز أن تصبح الشرطة وحدها هى المنوط بها مواجهتها، ولأن الرسالة وصلت، فكان لابد من احتشاد أكثر من مذيع في لحظة واحدة للهجوم على "أحمد موسى"، ثم تتحرك نقابة الاعلاميين وتتخذ قرارها بوقف برنامجه.
وقد كانت الرسالة المستهدفة واضحة، فكان الهجوم على "أحمد موسى" من قبل زملاء له، يتبعون أجهزة أمنية أخرى، ومن الواضح أن أطرافاً في السلطة تعمل على إقالة وزير الداخلية لتحميله التقصير الأمني، وأمام هذه الهجمة كان قبول وزارة الداخلية بالتضحية المؤقتة بأحمد موسى، خضوعاً للرياح العاتية!
"موسى" له "سابقة"، بالمفهوم الجنائي، في ذات السياق، ففي بداية التسعينيات من القرن الماضي، تصارعت الفيلة، فتكسرت عظامه، حيث كان هناك خلاف مكتوم بين وزير الداخلية "حسن الألفي"، ورئيس مباحث أمن الدولة "أحمد العدلي"، وكانت الوزارة تقوم عن طريق إدارتها الأخرى بالقبض على الإرهابيين، حتى لا يكون القبض عليهم امتيازاً يحسن من موقف "العدلي"، وتسرب لأمن الدولة خبر وجود تنظيم إرهابي تخطط الوزارة للقبض عليه ، فدفع "العدلي" بالخبر لمندوب "الأهرام" في الوزارة، فنشره، ليمثل النشر جرس انذار للتنظيم، وفشلت خطة الوزارة، ولم يكن "موسى" يدرك، أنه مستغل في صراع الكبار!
في مساء يوم نشر الخبر بجريدة "الأهرام" كان "موسى" يدخل من باب الوزارة كالعادة، ولكن موظف الاستعلامات القديم أوقفه على غير العادة، وطلب منه الجلوس في مكتبه الذي هو ممر للدخول للوزارة إلى حين أن يؤذن له، ليكتشف بعد أقل من ساعة أنه متحفظ عليه، فليس مسموحاً له، بالدخول، أو الخروج، أو الذهاب لدورة المياه لقضاء الحاجة، وظل هكذا حتى الصباح وبعد أكثر من سبع ساعات، ولم يُسمح له بدخول الوزارة، إنما بالانصراف، ليتقدم بشكوى لنقابة الصحفيين، وعندما علم زملاؤه بذلك احتشدوا في النقابة للدفاع عن كرامة زميلهم المستباحة، لكنه اختفى، تنفيذا لتعليمات قيادات "الأهرام"، ليجري مدير تحريرها حواراً مع وزير الداخلية، وعلى غير المتبع من قواعد رد الاعتبار للمحرر الصغير بحضوره الحوار، فلم يحضره موسى، وإنما سحب شكواه وعاد مندوباً للأهرام كما كان، وقد اعتذر عن خطأ ارتكبه بحسن نية، إذ كان مسيرا لا مخيرا!
وفي هذه المرة فإن "موسى" مستعد لتحمل المسؤولية كاملة عن التسريب المنسوب لطبيب المصابين في حادث الواحات، لأنه يعيش في معية كفيله الذي فرضه مذيعا، مع افتقاده لأي مقومات خاصة بالعمل الاعلامي، براتب قدره مليون جنيه في الشهر، مع احتفاظه براتبه في "الأهرام" فلم يتم حمله على الحصول على اجازة، ثم أن كفيله هو الأفضل، بالمقارنة بالكفلاء الآخرين من الأجهزة الأمنية الأخرى، فهو يوفر له طاقم حراسة، بنفس مستوى حراسة مساعدي وزير الداخلية، وظهر هذا جلياً في موقعة الكنيسة!
لقد شاهدنا يوم تفجير الكنيسة البطريسية، كيف تمكن الغاضبون من "لميس الحديدي"، فأشبعوها ضربا، لأن كفالتها لجهات أخرى، لم توفر لها حراسة، في حين فشلوا في الوصول لأحمد موسى فقد أحاط به حراسه، وهم شداد غلاظ، فتمكنوا من حمايته، وحالوا دون وصول المعتدين إليه.
والسؤال الآن، هل هي النهاية؟.. كنهاية كثير من الأذرع الإعلامية للانقلاب، من "يسري فودة"، إلى "توفيق عكاشة"، مروراً بمحمود سعد، و"ليليان داود"؟ والإجابة إن قرار التخلص منه لم يصدر من السيسي، وما جرى معه هو صراع الأجهزة الأمنية، وعندما تتصارع الفيلة يتكسر العشب، فسيعود موسى، لأنه الوحيد الذي لن يتخلص منه السيسي، لأنه على ذات المستوى الثقافي!
ملحوظة: عندما انتهيت من كتابة هذه السطور، طل علينا "أحمد موسى" في نفس توقيت بث برنامجه لنعلم أن نقابة الإعلاميين قد تراجعت عن قرارها، فقد انتصرت إرادة الجهاز الأمني الملحق به "أحمد موسى" وهزمت الأجهزة الأخرى المنافسة، ليبق صراع الأجهزة مستمراً، وهو ليس صراع أجنحة كما يعتقد البعض، فلا يوجد سوى جناح واحد حاكم، برئاسة السيسي، وصراع الأجهزة هو حول من يسيطر على الأرض ليكون الأقرب إلى الجناح الحاكم!
أضف تعليقك