كان اللصُّ قد لاذ بالفرار بعد أن طاردته الشرطة، ولم يجد مكانا يختبئ فيه سوى دار ذلك الشيخ ذي اللحية البيضاء والمسبحة، الذي انكبَّ على المصحف يتلو كلام الرحمن.
يستجير اللصّ الذي ظلمَهُ المجتمع ونُخَبُه الفاسدة بذلك الشيخ الوقور، ويطلب منه المساعدة والنجدة، ويلتمس لديه الحل لأزمته، فما كان من الشيخ إلا أن قال له بابتسامة هادئة: «توضأ وصلِّ».
يعاود اللص شكواه، فيقابلها الشيخ بالابتسامة ذاتها والرد نفسه: «توضأ وصلّ»، فما كان من اللص إلا أن تركه واستمر في طريق الهروب، بينما استأنف الشيخ تلاوة القرآن.
كان ذلك مشهدا من فيلم «اللص والكلاب الذي أنتجته السينما المصرية في بداية الستينيات، عن قصة الكاتب الراحل نجيب محفوظ.
لا يخلو هذا المشهد من ملامح المنهجية التي اتبعتها الدراما العربية في تقديم الشيخ أو الداعية في قوالب سلبية رديئة، فأظهره ذلك العمل الدرامي في صورة شيخ بعيد عن الواقع، يعجز عن تقديم حلول عملية للناس حوله، ولا يملك سوى أن يأمرهم بالعبادة، التي يراها ـ وحدها- كفيلة بالتغلب على أزماتهم.
ولا شك أن هذا القالب المتكرر في الدراما العربية، قد أثّر بشكل كبير على ثقة الناس في الحل الإسلامي، لأنه تأصَّل في حِسِّ الكثيرين منهم، أن الشيخ أو الداعية يُعبّر عن الإسلام ويرمز إليه.
وساعد على ذلك مسْلكُ بعض الدعاة والعلماء الذين لا يتطرقون إلى أزمات الناس إلا من جهة الأمر بتقوى الله والصبر والاكتفاء بذلك، فيُسْهم هذا الطرح في تعرُّض الإسلام لتشويه صورته الحقيقية، فيجد العلمانيون في ذلك بُغيتهم، وعلى أساسه يطرحون مشروعهم.
وكالعادة نقول إنه لن يستقيم أمر يتعلق بالإسلام إلا بالرجوع إلى أصله، إلى عهد الرسالة، إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ففيها الإسلام في نسخته التي أنزله الله بها، كيف كان النبي المختار يُعالج مشاكل الناس الحياتية، هل كان يكتفي بالوعظ والوصية بالصبر والتقوى؟
لنتناول إحدى المشكلات التي تعرض لها النبي، صلى الله عليه وسلم، في المجتمع المسلم، وهي مشكلة الفقر والبطالة.
لقد استخدم في علاج تلك المشكلة، أساليب متنوعة، يتكامل فيها التوجيه النظري مع النموذج العملي، والربط بين صلاح الحال الدنيوي والثواب الأخروي، فمن جهة يحثُّ على الأكل من عمل اليد فيقول: (ما أكل أحد طعاما قط، خير من أن يأكل من عمل يده).
ومن جهة ثانية يوجه إلى سُبل التكسّب ويفتح آفاقا للعمل، فيرشد مثلا إلى استصلاح الأراضي، فيقول: (من أحيا أرضا ميتة فهي له)، أو إلى التجارة فيقول: (لأن يأخذ أحدكم حَبْله فيأتي الجبل فيجيء بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه).
ومن جهة ثالثة، يقدّم مُعالجة عملية ذات مراحل تفصيلية، لمن جاءه يطلب الصدقة، فسأله عما يملك، فأخبره الرجل أنه ليس في بيته سوى كساء من الشعر وقدح غليظ للشرب، فأمر النبي أن يأتي بهما، وعرضهما للبيع، فباعهما بدرهمين، أعطى الأنصاري درهما لشراء طعام لبيته، واشترى بالآخر قدوما (آلة النجارة) وقال له اذهب فاحتطب، وأمره أن يأتيه بعد خمسة عشر يوما، فتربح الرجل عشرة دراهم.
أما من عجز عن التكسب، فهنا يأتي دور التكافل الاجتماعي، حيث ندب النبي، صلى الله عليه وسلم، المسلمين إلى الصدقة ومراعاة الفقير، وجعلها مسؤولية اجتماعية.
كان هذا هو المنهج الإسلامي الأصيل في معالجة المشاكل والأزمات، ومنه استقى الصحابة ذات الكيفية، كما حدث مع عمر بن الخطاب، عندما جاءه شاب فتِيٌّ يسأل الحاضرين، فندب الفاروق أصحاب الأراضي والزراعات أن يستأجروا هذا الشاب، فأخذه أحدهم للعمل في أرضه، فعمل وتكسّب، ولم يكتف عمر بأن ينصحه بالصبر على الفقر.
والإمام الشعبي من التابعين الذين وُلدوا في خلافة عمر، مرَّ بِإبلٍ قد فشا فيها الجرَب، فقال لصاحبها: أما تداوي إبلك؟ فقال: إنَّ لنا عجوزا نتّكل على دعائها. فقال الشعبي: إجعل مع دعائها شيئا من القطران.
إذن، تقديم الحل العملي كان في صلب الخطاب الديني في الرعيل الأول، وليس الإسلام مسؤولا عن انحراف البعض في هذه المفاهيم، ولا عن النماذج التي أساءت للدين بِتَجاهل تقديم الحلول العملية المادية، إلى جانب الحل الإيماني المُتمثل في التقوى والطاعة، اللتين هما أساس حل المشكلات.
ليتنا نردُّ الأمور إلى أصلها قبل أن نُحاسب المنهج الإسلامي، وليتنا نُفرّق بين المنهج الأصيل وانحرافات بعض المسلمين عن تطبيقه، فبدلاً من إحالة الناس إلى أطروحات أخرى بدعوى عدم صلاحية الإسلام للتعاطي مع واقع الناس، يكون الأولى ردّ المسألة إلى صورتها الحقيقية، من خلال النظر في واقع العهد النبوي والقرون المفضلة.
أضف تعليقك