• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

كان آرثر جيمس بلفور (1848-1930) رجل دولة مرموقا في عيون مواطنيه عبر المناصب البارزة التي تقلّدها، لكنه بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني يبقى تجسيدا واضحا للظلم والغطرسة، فهو أحد الوجوه الأساسية التي صنعت المأساة الفلسطينية.

لم يسمع الفلسطينيون آرثر بلفور وهو يتحدث، ولم يدركوا منه سوى صورة جامدة بالأبيض والأسود، وهي كلما ظهرت لهم بوجهه المستطيل وشاربه الممتد تباشر تذكيرهم بمأساة أوقعها عليهم هذا الوزير بسطور معدودة في رسالته الشهيرة إلى القيادة الصهيونية عبر اللورد روتشيلد.

حرّر وزير الخارجية البريطاني آنذاك رسالته في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، التي عرفت باسم "تصريح بلفور"، وجاءت بمثابة إهانة عميقة للشعب الفلسطيني، وما زالت تداعياتها المعنوية تتفاعل في الوعي الجمعي الفلسطيني الذي رأى فيها - بحق - كناية عن الاحتقار والإذلال المعنوي.

إنه بلفور تحديدا الذي تصرّف بوطن الشعب الفلسطيني كأنه مزرعة خاصة بـ"حكومة صاحب الجلالة"، فمنحها لطرف ثالث لتكون وطنا قوميا من لون جديد. لم تشأ الحكومة البريطانية آنذاك الاستماع إلى الشعب الفلسطيني الذي أغمضت عينها عن رؤيته بينما كانت "تنظر بعين العطف" إلى المنظمة الصهيونية التي قاطعها معظم يهود أوروبا يوم أن انطلقت مؤتمراتها.

لم تقم الحكومة البريطانية وقتها باستشارة المجتمعات اليهودية في أوروبا والعالم لفحص استعدادها لمغادرة أوطانها صوب "الشرق الأوسط". تم الاكتفاء بالترتيبات غير المعلنة مع القيادة الصهيونية التي لم تكن - آنذاك على الأقل - تحظى بتأييد معظم يهود أوروبا والعالم. ويجوز الافتراض بأنّ التوجّه إلى إقامة "وطن قومي" لليهود في فلسطين كان محفّزاً بدرجة ما على اقتلاع المجتمعات اليهودية المحلية من أوطانها الأوروبية في موجات من الاضطهاد والتطهير العرقي والإبادة بلغت ذروتها في العهد النازي.

عبّر تصريح بلفور عن منطق استعماري وجد في الخيار الصهيوني فرصة لإحداث الترتيبات الموعودة في فلسطين والمنطقة. ورغم أنّ نص التصريح أكد أنه ينبغي أن لا ينتقص من "الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى"؛ فقد تم فرض الأمر الواقع على كثير من التجمعات اليهودية، بمحوها من أوطانها وطمس ثقافاتها المتنوعة - بما فيها لغة اليديش - لصالح الذوبان في القالب الثقافي الأحادي الذي فرضته الأيديولوجيا الصهيونية. إنه وجه آخر للتعسف الذي انطوى عليه تصريح بلفور. ولا مبالغة في الاستنتاج بأنّ فكرة "الوطن القومي للشعب اليهودي" كانت اختراعا أوروبيا استغلاليا لإيجاد قاعدة استعمارية دائمة في مناطق متعددة تم اقتراحها وكانت فلسطين إحداها.

قرّرت "حكومة صاحبة الجلالة" بعد مائة سنة الاحتفال بصدور تصريح بلفور "المشؤوم" بتعبير الفلسطينيين الذي يشعرون أنّ هذا الاحتفال صفعة جديدة تسددها السيدة تيريزا ماي بما يُنعش الذاكرة بالصفعة الأولى التي بادر بها بلفور. ما يجري يمنح الانطباع بأنّ التاريخ لم يتغير على ما يبدو بالنسبة للحكومة البريطانية، وأنها في ما يتعلق بفلسطين تحديداً لم تتنصّل من الروح الاستعمارية حتى اليوم، ولم تقرر بعد خوض مراجعة تاريخية جادة ومسؤولة في هذا الشأن بدافع من صحوة أخلاقية.

لم تكن الآلام التي أوقعها بلفور وحكومته على الشعب الفلسطيني معنوية وحسب، فالكلمات السبع والستين في تصريحه جرّت من بعدها "مأساة فيزيائية" فادحة ما زالت تتفاعل وتتفاقم. تم منح المنظمة الصهيونية دولة قومية هي أشبه بقاعدة حربية ضخمة تقوم على مجتمع استيطاني مسلح حتى أسنانه وأيديولوجيا تقود إلى نظام معقد من الفصل العنصري في فلسطين. تسبّب تصريح بلفور وسياسات "حكومة صاحب الجلالة" بتشريد ملايين الفلسطينيين في ظروف مأساوية جيلاً بعد جيل بعد احتلال أراضيهم والاستحواذ على وطنهم واقتلاعهم من جذورهم.

مضى قرن كامل وما زال بلفور واقفاً في الصورة الجامدة بشاربه الممتد وكأنه يقول: "فعلتُها ثم رحلت!". لم يجرؤ أي من الوزراء اللاحقين على إصدار كلمة اعتذار أو أسَف واحدة جراء ما تسبّب به تصريح بلفور من صراعات ومآسٍ.

يَحِقّ لآرثر بلفور أن يشعر بالذهول اليوم إن كان بوسعه أن يُبصر الشعب الفلسطيني حاضراً وفاعلاً بعد قرن كامل من تصريحه التعسفي. إنه الشعب الذي لم يتطوّع وزير الخارجية الأسبق بمجرد ذكره في تلك الرسالة، فاكتفى بتسميته "الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين". إنه أحد تعبيرات الاحتقار التي استشعرها الشعب الفلسطيني مبكراً وما زالت مطبوعة في ذاكرته الجمعية، فالتصريح أنكر بهذا الأسلوب المتغطرس وجود شعب فلسطين في وطنه؛ في محاكاة واضحة لِلُغة القيادة الصهيونية آنذاك.

لن تربح المملكة المتحدة أخلاقيا بمواصلة التنصل من مسؤولياتها التاريخية عن قرارات وسياسات زرعت صراعا مديدا وأشعلت حرائق لم تنطفئ بعد. لم تتوقف المسألة عند حدود نص بلفور بل تجاوزتها إلى تمكين كلماته المعدودة من النهوض على الأرض بصفة تفوق ما منحه بلفور في تصريحه. والنتيجة أنه مقابل كل حرف في رسالة بلفور تم تدمير عدة بلدات فلسطينية وتشريد أهلها بلا هوادة ومنعهم من العودة إليها بقوة السلاح. حدث هذا بعد أن احتلت بريطانيا فلسطين ثلاثين سنة كاملة ثم غادرتها سنة 1948 تاركة مفاتيحها لدولة استيطانية مسلحة لم تتردد في خوض تجربتها في التطهير العرقي وعدم الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني أساساً.

خسر الشعب الفلسطيني وطنه رغم الهبات الشعبية والانتفاضات والإضرابات، لكنه رغم الصدمة العميقة لم يرضخ لواقع جائر تم فرضه عليه. كان من المتوقع أن تنتهي القصة منذ عقود وأن تتنازل أجيال الفلسطينيين عن حقوقها غير القابلة للتصرف وأن تنساها ببساطة. لكنّ المفاجأة التي لم يتوقعها بلفور أنّ الذين شردتهم وثيقته يحتشدون ضد الكلمات التي خطّها بعد مائة سنة في المنافي حول العالم، بما في ذلك قرب مقر "حكومة صاحب الجلالة" تلك التي لم تتوقع أن تعيش القضية كل هذا الأمد.

من الصادم أنّ تصريح بلفور بكل ما يعنيه ويرمز إليه بالنسبة لمنشأ القضية الفلسطينية؛ لم يخضع لنقاش عام جادّ في بريطانيا منذ قرن كامل وحتى اليوم. المسألة هنا أوسع من مجرد اعتذار المملكة المتحدة، الواجب، لإصدار هذا التصريح بكل ما ترتب عليه من مأساة وآلام للشعب الفلسطيني وبشكل ما أيضاً للمجتمعات اليهودية المحلية التي تم اقتلاعها من أوروبا والعالم لإمداد دولة المستوطنين بالموارد البشرية اللازمة لها. فلا ينبغي التقاعس عن إثارة تساؤلات من قبيل: ألا تستحق سياسة المملكة المتحدة نحو فلسطين في زمن آرثر بلفور وما بعده تحقيقاً تاريخياً معمقاً، عبر تشكيل لجنة مؤرخين مستقلة في هذا الملف الذي لم يُطوَ بعد؟

تحتفل حكومة تيريزا ماي بمئوية تصريح بلفور، في خطوة يرى الشعب الفلسطيني أنها رسالة إذلال رمزية متجددة له ولضحاياه عبر قرن كامل. سيكون مثيراً للاهتمام على أي حال أن نبصر الكيفية التي بوسع "حكومة صاحبة الجلالة" أن تقنع صبياً بائساً في مخيم للاجئين بمدى أخلاقية هذا التصريح، الذي اقتلع أسرته وشعبه من وطنه. من حق الصبي الفلسطيني أن يهمس لها قائلاً: كيف ستتصرفين يا سيدة ماي لو كنتِ أنت تحديداً مكان أمي أو جدتي، هل ستقيمين احتفالاً بتصريح بلفور؟

أضف تعليقك