وعرفت_أنه_فول
بعد أن أحتسي كوب الشاي الذي يفوق طعمه كل طعم غيره ، غسل كوبه وعاد به منتشيًا إلي نمرته علق كوبه في المكان المخصص له ، ثم ألقي جسده علي فراشه ، وشد غطاءه حتى ركبتيه ، جلس يستعيد ذكريات أول دخوله إلي هذا المكان في الرابع من يناير من عام 2014 ميلادية ...
تذكر الأيام السوداء التي قضاها في معسكر قوات الأمن والوقت الذي كان يمر ولا نميز فيه بين ليل ونهار ، وكمية البرد والصقيع التي تستحوذ على المكان ، فقد دخلناها فجر الخميس السابع والعشرين من شهر ديسمبر من عام 2013 بعد أن اصطحبتنا قوات أمن في زفة مهيبة كنت أحسد نفسي عليها ، قاموا بتسليمنا إلي السجن الحربي الكائن في معسكر قوات الأمن ، استقبلنا شاويش ويبدو من هيئته أنه كان يأكل أطفالًا صغيرة وفطموه علي طواجن الفتة باللحمة الضاني ، التي يبدو أثرها علي بطنه التي قفزت بدهونها علي توكة الحزام الذي يتشبث به بنطاله والذي لولاه لنزل البنطال مطرودًا إلي ركبتيه يشكو إلي ربه قسوة الدهون وشراستها وشراهة صاحبه.
ولكن الله سلمنا من هذه الهيئة القميئة ، حيث كان دوره فقط هو استقبالنا و بث الرعب في قلوبنا من منظره الذي بدا لي كأنه رؤوس الشياطين ، فمررنا عليه وهو يتلمظ ويتلظي غيظًا وأسنانه تصطك ببعضها وكأنه سوف يأكلنا ، استقر بنا المسير عند شاويش آخر ، وكان مبتسمًا وظني أن هذه الابتسامة هي أثر لما ظنه فينا أننا تملكنا الرعب من رؤية الشاويش المدرع الذي قبله ولكن تلاشت هذه الابتسامة الصفراء أمام اللامبالاة التي ظهرنا بها.
سجل أسماءنا عنده وجردنا من أدواتنا وفتشنا تفتيشيًا ذاتيًا وركز علي بعض المناطق حتي ظننت أنه سيقتلعها من مكانها ، فلربما يكون تحتها ما يخشي بقاؤها معنا ، ومارس بعضًا من لزوجته وهو يتحدث معنا ، لزوجة يعرفها كل من تعامل معهم عن قرب ، وكأنهم ولدوا بها.
انتهي من تفتيشنا ، وأخذ يستعرض سلطته وسطوته أمامنا علي الجنود الذين كانوا يرقبونا بأنظار مشدوهة ، خد ياض خلاص روح ياض..
ونحن وقوف سمعنا صوت قرآن يُتلي من أحد الزنازين ، عرفت أنها صلاة الفجر ، فاستراحت نفوسنا وهدأت قلوبنا طالما أن القرآن يُتلي هاهنا.
وفجأة تحول هذا الشاويش إلي ثور هائج وصاح في الجنود افتحوا زنزانة 9 يا أولاد الـم.....ة ، وذهبنا معه إليها ودخلناها ، دخول الفاتحين ، ثم أغلق بابها الحديدي علينا ، الغرفة خاوية إلا من شاب في العشرينات من عمره ، هكذا بدا لي ، ونصف بطانية ، مهلهلة وممزقة ، وحمام بلا باب ، والأرضية أسمنتية قذرة ، تقذف علينا بردًا من القطب الشمالي ، ونحن عشرة ، وهذا الشاب الذي لم نتعرف عليه بعد ، ولكن كان هناك بالزنزانة المجاورة معتقلين ، نادوا علينا وأخبرونا أن لديهم بطانيات زيادة وأنهم سيرسلونها لنا وهذا كل ما كنا نحتاج إليه في حينها ، ولكن الشاويش أبي إلا أن يجعلنا نمضي اليوم الأول هكذا بلا شيء حتى نجلس عليه .
الشاب الذي وجدناه كان طيبًا ، ودمث الخلق بالرغم من كونه جنائيًا ، رحب بنا وبدت عليه السعادة التي عرفتُ سببها بعد ذلك ، أعد لنا المكان وتجمعنا كلنا علي نصف البطانية في أحد زوايا الزنزانة ، نستدفئ ببعضنا ، من شدة الزمهرير الذي يلف الزنزانة الرطبة بطبيعتها ، وكنت قد نويت الصيام أصلًا قبل وصول أمن الدولة ومعه هذه الكتيبة من خير أجناد الأرض والمدججة بسلاح الحرب الكاملة لاعتقالي..
عرض علينا هذا الشاب الطعام فوجدنا جميعًا صائمين.
عرفنا بنفسه وبقضيته وبأنه هنا منذ ثلاثة أشهر بمفرده في هذه الزنزانة ، وكان سعيدا بوجودنا وكأنه قد خرج من السجن فمرارة الوحدة أقسي من مرارة السجن ومن قسوة السجان.
مرت ساعة والكل في سكون فرضته الحالة ، وفرضه البرد القارص ، ثم سمعنا صوت جلبة بالخارج ، ومناديًا من الخارج بصوت غليظ.. الفارغة يا أحمد... فقام أحمد الجنائي مسرعًا وأخرج جردلًا ، غسله بالماء ، الماء فقط ووقف خلف الباب ينتظر المنادي ، فقومت خلفه أستطلع الأمر ، فتح الشاويش الباب ومارس لزوجته علي أحمد بضربات خفيفة وسريعة علي عنقه ، وأخذ الجندي الجردل من أحمد ، وشرع في سؤاله..
كام واحد يا أحمد
حداشر يا باشا
متأكد
أي والله حداشر
ثم أمسك المغرفة وبدأ العد من قدرة معه مملوءة بشيء عرفت بعدها أنه فول مدمس وأخذ يعد حتى رقم خمسة ، ثم وضع في المغرفة نصفها ووضعه في الجردل ثم قال.. كده خمس غرفات ونص للحداشر ياله... حاضر يا باشا .
ما هذا يا أحمد ؟ أخبرني أنه فول للإفطار ، فنظرت إليه في الجردل ، فقررت الصيام حتى أخرج من المعتقل فو الله ما هو بفول ولا هو بطعام يليق حتى بحمارة خالي محمود التي كانت متواضعة في طعامها.
عُدت إلي جلستي وبدأت أفكر ماذا لو استمر الوضع هكذا وهو غالبًا سيستمر كيف سنأكل وكيف سننام وكيف سنتعايش...
يتبع
أضف تعليقك