بينما كنت أطوف سريعًا بين جنبات مكتبة أبي الثرية شعرا، سياسة وأدبا منذ أمد الفقيرة علما وفكرا الآن بفعل حماقات الجهلاء الأشقياء !
إذا بي أراها تطل على إستحياء بين مجلدين قديمين، كأنها خرجت للتو فجأة صوب عيني لتخبرني بأني أحمل بين طياتي ماتبحثين عنه..
أمسكتها تلك الوريقات النقية، كانت لحظة بعمر الرمل ولمعان النجوم وبصدق الفجر حين يتقدم صريحًا صوب العيون .. وريقات قليلة عددًا ثرية بماتحمله من كلمات كأنها نسجت خيوطها بالأمس !
أوقفتني تلك القصيدة للشاعر هاشم الرفاعي -رحمه الله-..
قصيدة تم صياغة كلماتها في الكفاح الإسلامي مصورة تلك المحن التي تعرض لها الإسلام في جميع دوله، ولاسيما تلك التي تعرض لها "الإخوان المسلمون" إبان عهد الطاغوت الثوري..
قصيدة تئن كلماتها في كمد عميق لإطباق الظلم، واستحال ليل المسلمين أنات وعذابات من جراء فتح السجون والمعتقلات لتلك الصفوة من رجالات الصحوة الإسلامية..
قصيدة نجدنا في حاجة إلى ترديدها، فجميع كلماتها تصف لنا نفس الأحداث التي نعيشها الآن. فكأنما قالها لتوه ! فالأحداث واحدة وإن اختلفت الأشخاص واليد المنفذة، فكأنما توارث الطغاة خطة وأد هذه الصحوة والتفنن في إبعاد الإسلام عن مجريات الحياة..
والقارئ لهذه القصيدة يتوهم شاعرها شيخا كبيرا حنكته السنون، ومرسته الأحداث والحقيقة أنه دون ذلك بكثير ! فشاعرنا مثله مثل الشهيد"سيد قطب" حين تبنى الإسلام فكرة ومنهاجا لم يطق الطاغوت أن يدع شابا غضا كالرفاعي في العشرين من عمره أن ينطلق بشعره هاتفا بالإسلام منددا بظلم الطواغيت، فأبى إلا أن يقتل الرفاعي غيلة وغدرا، لتفيض روحه إلى بارئها وهو في عنفوان شبابه مرددة:
أنا لست أدري هل ستذكر قصتي
أم سوف يعروها وحي النسيان !!
كل الذي أدريه أن تجرعي
كأس المذلة ليس في إمكاني
لو لم أكن في ثورتي متطلبا
غير الضياء لأمتي لكفاني
أهوى الحياة كريمة لاقيد، لا
إرهاب، لاإستخفاف بالإنسان
فإذا سقطت سقطت أحمل عزتي
يجري دم الإسلام في شريان
وإلى لقاء تحت ظل عدالة
قدسية الأحكام والميزان
وشاعرنا رغم صغر سنه إلا أنه يجسد الإنسان المسلم الواعي صاغ قصيدة
"أغنية أم".. لأم تهدهد طفلها، ليرسم من خلالها لوحة متكاملة لحياة الأمة المسلمة من خلال هذه الأم الواعية، مصورا محنة مسلمي الصحوة من خلال حكاية الأم عن زوجها الذي أعدم لقاء أن قال وإخوانه: ربنا الله ثم استقاموا يعملون على التمكين لدينهم وإعلاء رايته.
ومسلمة الصحوة في هذه القصيدة ليست إمرأة عادية، بل هي مجاهدة صابرة، تعي إسلامها فكرا وسلوكا وتدرك حقائق الأشياء من حولها، وتعرف من مجريان الأحداث دقيقها، فلا تكاد تقف عند تلك السطحيات من اهتمامات النساء.
فحين تتحدث إلى وليدها تحدثه رجلا يجب أن يعرف حقيقة الأمور كلها، يميز طيبها من خبيثها..
ستمر أعوام طوال في الأنين وفي العذاب
وأراك ياولدي قوي الخطو موفور الشباب
تأوى إلى أم محطمة معرضة الأهاب
وهناك تسألني كثيرا عن أبيك وكيف غاب
هذا سؤال ياصغيري قد أعد له الجواب
ومن ثم يستطيع أن يثأر عدلا وقانونا لأبيه الذي لم يره، من أولئك الذين أذلوا هذه الأمة، فهذا الوليد خرج إلى الحياة وقد لفها ظلم الطغاة، حين استخفوا أقوامهم فظنوا أنهم الآلهة تعبد من دون الله الواحد القهار، فلقد ولدت لكي ترى أذلال أمة
غفلت فعاشت في دياجير الملمة
مات الأبي بها ولم نسمع لصوت قد بكاه
وسعوا إلى الشاكي الحزين فألجموا بالرعب فاه
أما عن حكاية هذا الوليد وأبيه، فالأم تعرف أنها حكاية قديمة جديدة ماكانت الحياة، صراع الحق والباطل مافتئ التاريخ يحكيها دامية أليمة وتكون المحصلة شهداء بذلوا أرواحهم دون التنازل عن حق اعتنقوه وعقيدة أشربوها.
الحاكم الجبار، والبطش المسلح، والجريمة
وشريعة لم تعترف بالرأي أو شرف الخصومة
ماعاد في تنورها لحضارة الإنسان قيمة
ولهذا فقد سيق أبوه في الأغلال طالما أن الخصم هو الحكم فلا يرتجى دفع لذلك البهتان الذي رمى به أبوه من قبل أولئك الجالسين على كراسي القضاة !
وتوقن الأم صدق إعتقاد زوجها، فكأنما تدافع عنه أمام وليدها، وتحذره أن يصدق ماافتروه على أبيه حتى وإن قدموا "تقريرا" ينطق بالإدانة.
وهكذا فالمسلمة أوعى من غيرها بمايحاك بالصحوة الإسلامية ومايلصق برجالاتها من كذب وبهتان، لذا فهي تقف صلبة في وجه كل مايردد عن زوجها.. أبيه.. أخيها حين محنته تشد أزره وتشحذ عزمه.
هذا الذي كتبوه مسموم المذاق
لم يبق مسموعا سوى صوت النفاق
صوت الذين يقدسون الفرد دون الإله
ويسبحون بحمده ويقدمون له الصلاة
ووعي مسلمة الصحوة بالأحداث على وجهها الصحيح يجعلها تقف منها موقف اللبيب الذي لايخدع في تصريحات دعائية وشعارات براقة ورسميات خادعة، فهي تقول محذرة في وعي:
لاتصغ ياولدي إلى مالفقوه ورددوه
من أنهم قاموا إلى الوطن السليب فحرروه
لو كان حقا ذاك ماجاروا عليه وكبلوه
ولما رموا بالحر في كهف العذاب ليقتلوه
ولما مشوا للحق في وهج السلاح فأخرسوه
وهكذا المسلمة القوية بعد أن حكت قصة الطغاة واطمأنت إلى أن وليدها قد استوعبها بكل ملابساتها وبكل حقائقها، عمدت إليه تحثه أن يسلك مسلك أبيه حتى يمكن لفكرة عاشت لها..
نعم، تريد أن يسلك مسلك أبيه في جهاد الطغاة، وأن يرث عنه جهاده وبذله في سبيل إعلاء كلمة الله.
فإذا بطشت به فذاك هو الثمن
ثمن الجراحات المشوبة باللبن
وهكذا حين تربي المسلمة أولادها على درب الجهاد في سبيل الله، يحملون رايته، ويسلكون سبيله.. تطمئن إلى ماغرست وتأمن إلى ماوصلت بهم من طيب الثمار، حينئذ فقط تفخر أم لها أبناء على درب الدعاة الصالحين المجاهدين..
في نهاية إسقاطاتي على تلك القصيدة الملهمة..
أدرك أنها قصيدة لامست واقعا حيا الآن، فكأنما اختصرت المسافات والأزمان لتحادثنا عن محنة الإسلام ورجاله هنا وهناك، في اليمن وسوريا الثائرة والعراق وفلسطين الحائرة.
أحسب أنه يجب أن تكون أشعاره في متناول الجميع حتى يحظى بالإهتمام الجدير به كشاعر من شعراء صحوتنا الإسلامية الذين تغنوا بها في جميع أحوالها..
رحم الله شاعرنا.. وقيض له من يذكره أبدًا.
أضف تعليقك