تظل حالة الاستقطاب تتسيد الموقف، حينما تأتي الأحداث علينا لتفرض مناسبات معينة، بعد الانقلاب المشؤوم الذي ضرب مصر دولة ومجتمعاً. كان هذا الاستقطاب يتخذ أشكالاً تتعلق بانقسام القوى السياسية، وممارساتها التي تغذيها بعض الاختلافات الأيديولوجية.
تحول ذلك كله، بفعل النخبة المحنطة التي تحولت إلى نخبة منحطة، إلى مساحات الانقسام المجتمعي، ونال ذلك من تماسك الجماعة الوطنية بكل مكوناتها الدينية والمجتمعية وطبعاً السياسية. اتخذ هذا الموقف الاستقطابي أشكالاً مختلفة، وشاهدنا ذلك في مشاهد متنوعة في الانتخابات التي تتعلق بالرئاسة التي تطرق الأبواب، تطرقها بشدة وتتصاعد المواقف باتهامات عدة تتعلق بالتخوين لأشخاص، أو التهوين من مواقف بعينها، كان من أهم هذه المشاهد حديث للمنقلب عبد الفتاح السيسي عن الانتخابات المقبلة، وكأنها تحصيل حاصل، وأن وجوده في السلطة أمر مفروغ منه. يمنّ المنقلب على الناس، فيتحدّث إن الانتخابات ستجري في موعدها، وأنه لا يفكر الآن في تعديل الدستور، لكنه يفتح الباب واسعاً لإمكانات التعديل بعد ذلك، ويحاول من كل طريق أن يؤكد أن نظامه ليس دكتاتورياً أو فاشياً أو معادياً لحقوق الانسان، ثم يعضد ذلك كله بأنه لن يجدّد لمرة ثالثة، هو فقط سيقبع على رأس السلطة لثماني سنوات، مر منها قرابة الأربع، وسيكون له أربع أخرى، ويقول إنه لن يبقى يوماً واحداً ضد رغبة الشعب المصري.
تناقضات بالجملة في مشهد الخطاب يعبر فيها عن مواقف مسبقة، وكأن نجاحه أمر مفروغ منه، ويتحدث إنه لن يبقى ضد إرادة الشعب، وهو يزهق هذه الإرادة بترسانته الأمنية وقوانينه الحابسة للحريات التي حولت مصر سجنا كبيرا.
وأكثر من ذلك، لم نر من علامات إنجازه على الأرض أثراً على معيشة الشعب أو حياة عموم الناس، ولكن الأخبار تطالعنا عن بناء "تشكل الانتخابات في مصر أكبر فرصة لـ "محاكمة نظام" يريد أن يهدم وطناً" سجون جديدة تستوعب المزيد، ويمارس كل سياسيات تتعلق بانتهاك حقوق الإنسان الأساسية والتأسيسية، من أول حق الحياة الذي يستخف به في كل دماء، وحتى حقوق الأمن التي يروع بها الناس ويفزعها، فيطارد ويعتقل ويختطف قسرياً، بل ويقتل ويصفي. وقد حقق بذلك مقولته الأساسية عن الجيش إنه أداة قتل، ويمارس، من خلال أجهزته الأمنية، سياسة استبدادية وفاشية وفق سياسات بوليسية، جوهرها صناعة الخوف، وبعد ذلك كله يتحدث عن الانتخابات.
المشهد الثاني هو مشهد المبادرات لترشيحاتٍ هنا وهناك، أعلن أحدهم ترشحه للانتخابات، ودارت المواقف والكلمات بين اقتتالات ومناكفات، وبدا الأمر يتجه إلى هذا في معارك كلامية تستعر ولا تتوقف، تستحضر مشهد الاستقطاب، وتغذّيه من خلال خطاب مكرور عن الانتخابات وشرعية المشاركة فيها وشرعنة نظام الانقلاب الذي اغتصب السلطة، وقطع الطريق على مسار ديمقراطي.
غاية الأمر في كل ما نقوله الكيفية التي يستثمر بها هذا الحدث في سياق مناهضة سلطة الاستبداد ومنظومة الانقلاب، على أن يكون ذلك رهن تفرقةٍ بين هؤلاء الذين يناهضون الانقلاب، فلا يعترفون له بشرعية، ويقاطعون الانتخابات موقفاً مبدئياً لا يقبل التنازل أو يقبل النقاش، وكذلك موقف بعض القوى المعارضة التي تعمل تحت سقف النظام، وتعترف بشرعنة أمر واقع لمنظومة الانقلاب، وربما تتفاوت الآراء، فلا يعتبرها بعضهم ولا يصفها انقلاباً.
ذلك التمييز يعني أن هذه القوى، وفق تطورها ومن دون مصادرة حجية موقف المقاطعة الإيجابية، أن تجعل من معارضاتها هذا النظام، لتجد مساحة لخوض الانتخابات الرئاسية ساحة لممارسة معارضتها، ومحاولة حلحلة الموقف سياسياً في إطار تلك المناسبات، لكن الأمر في حقيقته، وعلى الرغم من أنني ممن يطالبون ويؤكدون على مقاطعة انتخابات هزلية، إلا أن من الضروري أن أوجه رسائل إلى من يهمهم الأمر: الأولى أن على الذين يترشّحون لخوض الانتخابات أن يقوموا بعمل جدي في منظومة (وحزمة) الضمانات التي تنتزع بحركة غاية في الإيجابية، يمكن أن تجعل تلك الانتخابات حقيقية غير زائفة، أو أن تكون ساحة تزور فيها تلك الانتخابات بكل مسالك التزوير الذي اقترفته السلطة المستبدة سابقاً، وتمارسه سلطة الانقلاب لاحقاً. إنها المعركة الحقيقية، حتى لا يكون من يترشح للرئاسة "مرشح كومبارس" على الطريقة الحمدينية (نسبة إلى حمدين صباحي الذي دخل الانتخابات الرئاسية الهزلية السابقة)، فيضفي شرعية على انتخابات غير حقيقية.
الرسالة الثانية هي للمقاطعين الذين يكتفون بمقاطعة سلبية، ويؤكدون أن الانتخابات أو المشاركة فيها تنال من حقيقة الشرعية، لكن هؤلاء غالباً ينتجون خطاب لعن النظام من غير عمل إيجابي لإيجاد آلية لفضح النظام، وتحويل جهدهم عملاً فعلياً. يذكّرني موقف هؤلاء بمسابقة شعرية
"يتوجب القيام بعملية تحطيم بضراوة لهذا النظام داخل كتلته الصلبة وداخل حلفه اللصيق" لأقصر قصيدة في الشعر الحر، فقام أحدهم ينشد "أحببتها.. أحبت سواي.. لعنتهما ونمت"، فليس معنى المقاطعة أن تلعن النظام وتنام، إنما أن تحول ذلك إلى استراتيجيةٍ تقض مضجع النظام الانقلابي، تتعلق بقوائم عمل لفضح النظام، فتقدم أربع لوائح، لائحة الإجرام والاتهام للنظام، ولائحة الفشل، ولائحة الفساد والفاسدين، ولائحة الفجر في سياسات النظام فيما يسميه سياسةً أمنية بوليسية، تحرسها حركة ظلم قضائي بأحكام مفرطة، وتلفيق اتهامات بالجملة، وتهم مريعة لا تنتمي لدائرة المعقول أو المقبول. بين هذه اللوائح الأربع تعلن هذه اللوائح الاتهامية للنظام الانقلابي ضمن شبكة مؤثرة وفعالة للمقاطعة الانتخابية تعنى بفضح ممارسة هذا النظام، تحت شعار "لا يحكم بل يتحاكم".
الرسالة الثالثة، من المهم التأكيد على أهمية سياسات فضح النظام الانقلابي ضمن عمل يتعلق بمحاولة ترشح المنقلب لانتخابات مقبلة، بما يؤكد أن مرشح النظام هو "مرشح الضرر" للوطن وللشعب وللجماعة الوطنية، بعد أن ادّعى بعضهم أنه "مرشح الضرورة". وأنه ليس للمنقلب أن يتقدّم للترشيح مرة أخرى، محاولاً أن يقدم ما يمكن تسميته برنامجاً انتخابياً، ولكن في حقيقة الأمر يجب أن تقدم له لائحة اتهام على كل الجرائم التي ارتكبها في حق الشعب والوطن، ويتم ذلك في عدة ساحات ومساحات، لائحة اتهام لا برنامج انتخابي. حان وقت حساب الشعب وحساب الناس، كيف يجرؤ المنقلب على مطالبة الشعب بإعادة انتخابه، وقد مارس قتلاً وتزييفاً وتزويراً.
ومن ثم، تشكل الانتخابات أكبر فرصة لـ "محاكمة نظام" يريد أن يهدم وطناً، ويستمر في تخريبه، وتخريب جماعته الوطنية. ومن هنا، وجب القيام بعملية تحطيم بضراوة لهذا النظام داخل كتلته الصلبة وداخل حلفه اللصيق، ونظام المصالح الذي يرتبط بها، والتطلعات التي تتعلق بالفئة الأخرى، وكشفها (يمكن الإعداد لاستراتيجيات الفضح والتحطيم والمحاكمات للنظام شعبياً ودولياً بخطوات متعدّدة ليس المقام التفصيل فيها).
بدلاً من أن ننشغل ونشتغل بتراشقات كلامية، وإعلان حرب استقطابية، فإن لكلٍّ وجهته، هو موليها يمكن أن يواجه بها النظام مقاومة مقاطعة أو مشاركة فاضحة ضمن المطالبة والضغط لانتزاع حزمة ضمانات فاعلة، فنخوض معركةً تتحد في الهدف، وتختلف في الوسائل، بالاعتبار الذي يؤكد أن معارضة النظام الانقلابي غير مقاومته. وبين هذا وذاك، تكون خيارات من غير مزيد من التنابذ والاستقطاب والاقتتال كلامياً، هذه هي القضية.
أضف تعليقك