في أعوام فلسطينية خلت، ولا سيما خلال سنوات الانتفاضة الأولى، أذكر جيدًا كيف كان يستقبل الفلسطينيون ذكرى وعد بلفور، وكيف كان يتحوّل الثاني من (تشرين الثاني/نوفمبر) من كل عام إلى يوم تصعيد ساخن ضد الاحتلال. لم يكن الفلسطيني المنتفض حينها يترجم رفضه كلاماً ضد القوى الاستعمارية التي أنتجت الوعد، وخصوصاً بريطانيا، ولا يستنزف وقته بمطالبتها بالاعتذار عنه، لإدراكه أن ما يستحق تكثيف الغضب هو إفراز ذلك الوعد، أي الاحتلال الجاثم على الأرض، وأن اعتذار بريطانيا ومعها كل قوى العالم لن يغيّر شيئاً من الحقائق الماثلة على الأرض، ولن يطرد غاصباً أو يردّ لاجئاً إلى أرضه.
مرّ الزمن، وبهت معنى كثير من المناسبات في المفكرة الفلسطينية، ولم تعد أجندات أيام الفلسطيني تشتعل في ذكرى المجازر والنكبات والقرارات الدولية الظالمة كقرار التقسيم ومن قبله وعد بلفور، وصار إحياء مثل هذه المناسبات كلامياً أكثر منه عمليا، وطال الشحوب نصوص التصريحات المعلّقة على هذه المناسبات، ومدى التفاعل معها، ووقعها في الإعلام وفي ذهن المتلقي، حتى لو تضمنّت تعهداً بمقاومة المحتل واسترداد الحقوق المغتصبة. ولعل هذا مرتبط قبل كل شيء، بحالة الخمول التي تمرّ بها القضية الفلسطينية، واليأس من إمكانية تغيّر معطيات اللحظة الراهنة، أو استعادة الألق القديم لا سيما ذاك الذي كان يكتنف أيام الانتفاضات، وحين كانت فلسطين ساحة التفاعل الأهم في المنطقة، فيما يسيطر الجمود على ما حولها.
كل ما يمكن أن يُقال اليوم عن وعد بلفور سيُعدّ مكرراً مهما حاولنا إعادة إنتاجه بما يلائم معطيات اللحظة، وسبق لمعظمنا أن سمعه أو قرأه بصيغ شتى كلما كان يتوقف عند هذه الذكرى ليبكي على أطلالها أو يطالع تفاصيلها أو يبحث في خلفياتها، ولذلك فلم يبق اليوم من وعد بلفور سوى مزيج من ذكريات أليمة متصارعة في إدراك الفلسطيني، تظلّلها صور اللجوء والتشرد والمجازر، وتهزّها مفردات الواقع المرير، حيث يتمدّد الاستيطان وتتقلص الأرض، وحيث يزحف التهويد وتتراجع مقاومته.
لم يبق من (الوعد المشؤوم) إلا تذكير المسلمين عامة والفلسطينيين خاصة بأن فلسطين لا تزال تحت الاحتلال بعد كل تلك السنوات، وأن الشعارات والعهود التي أطلقتها الأنظمة والنخب على هامش مآسيها كانت فقاعات أنتجها العجز والخيبة والتآمر، وأن الأنظمة الاستعمارية لا تزال داعمة للكيان الصهيوني كما كانت قبل قرن من الزمان، حين كان المشروع الصهيوني كله حبراً على ورق، أو حلماً يداعب أفكار القادة الصهاينة خارج فلسطين، وبأن مصطلحات (الشرعية الدولية) و(القانون الدولي) ليست سوى سراب يحسبه الظمآن ماء، ويظنّه المفلس ساحة مجدية للمناورة واستجلاب الحقوق.
مضى عهد وعد بلفور بملابساته وظروفه التاريخية وبقي إفرازه الأبشع، وبقي تبجّح أحفاد أصحاب الوعد بصنيعهم واقتناعهم بصوابيته وبعبقرية تلك الفكرة التي قضت بأن يكون مستقرّ ذلك الكيان السرطاني المسمّى إسرائيل على أرض فلسطين، لكن الأبقى من وعد بلفور وما تمخّض عنه هو وعد الله الذي يتلوه كل مسلم في مطلع سورة الإسراء، حين يرتشف معاني (وعد الآخرة) ويُسكنها قلبه وإدراكه، ويتشبث بيقينه بحتمية تحققه مهما طال الزمن. غير أن اليقين بوعد الآخرة لا يجوز أن يورث المؤمنين به كسلاً وانتظاراً سلبياً، بل أن يكون محفزاً للعمل والإعداد المستمريْن، وإن كان اليهود لم يكتفوا بالحصول على وعد من بريطانيا بإقامة وطن لهم في فلسطين، بل عملوا على جعله واقعاً بكل ما أوتوا من قوة وإجرام وتحايل ومكر، فإن المسلمين أولى بأن يفقهوا متطلبات الوعد الرباني لهم المقرر في كتاب الله، وأن يبحثوا عن مسؤولياتهم تجاهه، وما يلزمهم ليكونوا أهلاً لإنجازه، عسى أن يكتب الله تحقيقه على أيدي عباده منهم، في هذه المرحلة الشاقة، التي يبدو فيها الانتصار عسيراً وساعة الفرج مستترة، تبحث عمّن يكشف حجابها، ويومض شعلتها.
أضف تعليقك