لا يُصدّق هذا الانكباب العربيّ الأهوج على "إسرائيل"، حتى قادة العدوّ منبهرون بهذا المستوى من الحماسة العربية للتصالح والتطبيع مع أشدّ حكومات الاحتلال الصهيونيّ تطرّفًا وحقدًا، دون أن تفكّر هذه الحكومة بالتحرّك نصف خطوة تجاه الحقوق العربية، كبادرة حسن نيّة، أو لحفظ ماء وجه العرب المهراق على أعتابها.
الإضافة في الحالة العربية الجديدة مع دولة الاحتلال هي هذا القدر من الصراحة، أو الوقاحة بتعبير أدق، في التطبيل للتطبيع مع العدوّ، والانجرار لتبرئته والدفاع عنه والإشادة به، ثم التطوّر إلى هجاء الفلسطينيين وقضيتهم، لينتقل عربُ الاعتلال من مرحلة العلاقة السرية المغلفة بالعداوة الكاذبة، إلى مرحلة التنظير للخيانة والدفاع الممنهج عنها.
لا شيء يفسّرُ هذا الانهماك العربيّ في تحسين العلاقة مع العدوّ، سوى طمع هؤلاء الحكام في تدخل "إسرائيل" لصالحهم في المحافل الدولية، إذ يعتقدُ هؤلاء أنها تمتلكُ عصا ساحرةٍ تضربُ بها ما تشاءُ من الرؤساء والحكومات والأنظمة والمؤسسات الدولية، فتلبّي طائعةً مأمورة، أو لعلّهم يرون "إسرائيل" عفريت مصباح علاء الدين، يفركونه تحبّبًا وقربةً فيخرج لهم بهتاف: لبيك وسعديك، ليحقق لهم الأحلام!
الحقّ أنّ لدولة العدوّ صولةً في المجتمع الدوليّ، ولدبلوماسيتها تاريخٌ حافلٌ من التدخلات النافذة، والتحركات المؤثرة، لكنها لم تكن قطّ إلهًا ولا ساحرًا خارق العادة، ولا عفريت مصباح لا يعجزُ عن أمنية، وهي فوق ذلك تسجّل أعلى درجات النذالة السياسية، والاستغلال البشع، ثم البيع في أتفه فرصة، وأبسط مكسب. معظم نجاحات الدبلوماسية الصهيونية كان في دعم مواقفها هي، وما يختصّ بمسائل مصالحها الأساسية، وكثيرًا ما فشلت حتى في هذه، لكن الأكثر هو فشلها في دعم المجرمين والفسدة والظلمة، أمثال هؤلاء الذين يدقّون بابها صباح مساء، أملًا في الدعم والنصرة الدبلوماسيين.
وقد كان فيما مضى عبرةٌ لمن أراد أن يقرأ تاريخ الدعم الصهيونيّ للأنظمة الآثمة، مثل "صربيا" في مجازرها ضدّ مسلمي البوسنة، إذ وقفت "إسرائيل" بكلّ قوتها إلى جانب الصّرب، معاندةً حلفاءها التاريخيين، ودعمتهم بالتدريب والسلاح والمواقف السياسية، لكنها لم تغن عنهم شيئًا، ولم تلبث -بعد أفول نجمهم وسقوطهم- أن انقلبت عليهم، بل وسلّمت للبوسنة بعض من هرب من قادتهم لاجئًا إليها، بعد أن تزوج من بناتهم، ومُنح جنسيتهم، وعاش في كنفهم سنين.
ومنذ سبعينيات القرن الماضي وحتى تسعينياته، دعم الصهاينة بقوّة وشراسة نظام غواتيمالا في قمع شعبه، وساهمت في تسليحه وتدريبه والإشراف عن قرب على كثير من جرائمه، فلم يغن عنه ذلك الدعم، وسقط أخيرًا، ولا زال الرئيس الغواتيمالي الأسبق ريوس مونت يُحاكم -وقد جاوز التسعين- في جرائم حرب وإبادة، ارتكبها قبل عقود.
دعم الصهاينة جنوب السودان دعمًا غير محدود، كراهيةً للسودان العربيّ المسلم، وعقوبةً له على دعمه للفلسطينيين، وتنوّع دعمهم للجنوبيين بين التدريب والتسليح والغطاء الدبلوماسيّ والترويج الدوليّ، حتى انفصل جنوب السودان، فخذله العالم، وغدرت به "إسرائيل"، إذ باعت السلاح للفرقاء أجمعين، وأغرقتهم بالصفقات القاتلة المهلكة، حتى أفنى بعضهم بعضًا، وأصبحوا مضرب المثل في الفشل، وصار كثيرٌ منهم يحنّون إلى أيام الوحدة مع الخرطوم.
ثم أمامنا المثالُ الصارخ الجديد، مشروع الدولة الكُرديّة القتيل في مهده، حيث راهن ساسة الكُرد على "إسرائيل"، وكم كان مؤلمًا أن تُرى أعلام دولة الاحتلال مرفوعةً بأيدي الشباب الكرديّ، ويُهتف باسمها في حواضر أهلنا الأكراد، شركاء الدين والتاريخ المديد، فما أغنى عن إخوتنا هؤلاء ما صنعوا، وخرجوا من المعمعة كلها بالفضيحة والخُسران، فهل يعتبرُ العرب!
وليس بعيدًا من هذا كلّه مصر، إذ نافحت "إسرائيل" عن مبارك أشدّ المنافحة، وبذلت غاية جهدها في محاولة إنقاذه، فلم تسعفه، ثمّ ها هو نظام الثالث من يوليو، يفاجئ قادة العدوّ بمستوى الخيانة/التنسيق الذي وصل إليه، ويرونه خلفًا خيرًا من نظام مبارك نفسه، لكنها رغم ذلك لم تبذل جهدها في إنقاذ مصر من أزماتها المتلاحقة، لا سيّما الكارثة الوجودية التي تتهددها في مياه النيل بسبب النهضة، فلم لم تحرّك "إسرائيل" ساكنًا في هذه الأزمة، وهي ذات النفوذ الإفريقيّ الكبير -على حساب مصر بالمناسبة-، والنفوذ العالميّ الأكبر!
لا يزال العرب مسحورين بعفريت المصباح الوهميّ، منكبّين عليه انكباب العاشق الأعمى، ناسين أو متناسين تاريخه العريض في العجز والغدر، باذلين خطواتهم تجاهه يومًا فآخر، وما إعلان "حزب الله" منظمةً إرهابية، إلا خطوةً على طريق التقرّب للعدوّ، وكلّ دعوى سوى ذلك ليست إلا غطاءً يتغطّى به هؤلاء أمام شعوبهم إذا أحرجتهم الأسئلة.
ليت حكام ممالك القهر والظلم، وقطع الأرحام والغدر بذوي القربى، يعلمون أنّ مشاكل الداخل تُحلّ من الداخل، لا من الخارج، وأنّ صراعات الإقليم تُحلّ بحسن السياسة لا بالارتماء في النجاسة، وأنّه مهما بذلوا لدولة "إسرائيل" فإنّها لن
تغامر بروح جنديّ واحدٍ لصالح دولةٍ عربية، وفوق ذلك مهما بلغ جبروت "إسرائيل" الدبلوماسيّ، فلن تُنقذ حاكمًا عربيًّا واحدًا من مصيره إذا تحتّم، هذا إن كان هؤلاء الحكام يعنونها، أو توفّرت نيةُ إنقاذهم لديها أصلًا.
أضف تعليقك