وسط الضجيج؛ شغلتني "الاستمارة"، ولم تكن سوى "استمارة" إعادة ترشيح عبد الفتاح السيسي لدورة ثانية، والتي كانت توزع في المؤسسات الحكومية وغيرها، فيجبر الناس على التوقيع عليها!
كان أنصار عبد الفتاح السيسي يظنون أنها دانت لهم، ومن ثم فقد تجرؤوا حد أن طلبوا من أناس من ضحايا الانقلاب العسكري؛ أن يوقعوا عليها "قوة واقتدارا"، ومن لم يوقع تم الدفع به إلى جهات التحقيق لاتهامه بإهانة الرئيس، حتى استدعى الأمر صدور فتوى بإباحة "توقيع المضطر"!
كانت الأذرع الإعلامية تفخر بأنه لا يوجد أحد في مصر يصلح سوى عبد الفتاح السيسي، ولا أحد يجرؤ على منافسته، ومن ثم فقد دعا "عمرو أديب" المنافسين بعدم الخوف، فالدار أمان، وإذا كان هناك من يخاف من أن يبطش الإعلام به، فقد أبلغهم أن هذا لن يحدث، رغبة من النظام في أن تكون انتخابات تنافسية، يضمنون فيها أن الفوز الساحق سيكون من نصيب مرشحهم المختار؛ الذي لا يوجد أحد في بر مصر قادر على منافسته. ولأنه لا بد من الشكل الديمقراطي، فهم يغرون الآخرين بالترشح!
لكن، أسقط في أيديهم بمجرد إعلان الفريق أحمد شفيق نيته في خوض الانتخابات الرئاسية، عندئذ استشعروا الخطر، ومن ثم فقد اندفعوا يهاجمونه ويسلخونه بألسنة حداد، ويخرجون فيه "القطط الفطسانة". ووصل الحال إلى حد التشهير به، ورميه بكل نقيصة، وأحد أنصاره السابقين وصفه بالانتهازي الذي يتواصل الآن مع الإخوان المسلمين، وطلب في السابق من الرئيس محمد مرسي، أن يعينه رئيساً للحكومة، لكن الرئيس رفض. مع أن تأييد هذا الشخص استمر إلى قبل إعلان أحمد شفيق رغبته في الترشح!
وفي غمرة الفزع من هذا الخطر القادم، لم ينتبه هؤلاء إلى أنهم يقدمون خدمات جليلة للثورة المصرية، ليس فقط في تقديم النظام الحاكم على أنه نظام مستبد لا يحتمل انتخابات تنافسية، ولو انتخابات "البيت الواحد"، فاستبداد الانقلاب لم يعد بحاجة إلى المزيد من الأدلة، ولكن بالإضافة إلى هذا، فقد أوقف بيان شفيق بالترشح الادعاء المشمول بتورم الذات؛ بأن عبد الفتاح السيسي هو "مرشح الضرورة" الذي يخشى الجميع من منافسته، هذا فضلا عن أنه أسقط فكرة "العسكري المقدس"!
فقد كان أكبر لغم في طريق الثورة، هو الخلط بين الجيش والمجلس العسكري، وبين العسكري على جبهة القتال، والعسكري الحاكم، وبين الرائد مقاتلا على خط النار، والرائد مقاتلا على خط البلطي.. فالكل مقدس، ومن يرفض الانقلاب العسكري؛ فهو متآمر على حضرة صاحب القداسة "الجيش المصري"!
كان أكبر لغم في طريق الثورة، هو الخلط بين الجيش والمجلس العسكري، وبين العسكري على جبهة القتال، والعسكري الحاكم
وكنا نلجأ للتاريخ لإحداث تصدعات في جدار القدسية هذا.. فالذين قتلوا السادات الحاكم العسكري هم عسكريون مثله، والذين أزاحوا الرئيس محمد نجيب وأهانوه هم أعضاء مجلس قيادة الثورة، وكلهم من العسكريين.. والذي سجن الفريق سعد الدين الشاذلي، أحد أبطال حرب أكتوبر، هو الفريق حسني مبارك، قائد الضربة الجوية، وبحكم من محكمة عسكرية؛ كل قضاتها من العسكر!
وها هو الهجوم على الفريق أحمد شفيق لا يعطي قيمة للانتماء العسكري؛ لواحد كان من قادة الجيش المصري، ومن نخبته العسكرية، لكونه طياراً منتمياً إلى صفوة المؤسسة من خريجي الكليات الثلاث: "الجوية، والبحرية، والفنية العسكرية"!
وهذه الاستباحة لم ترع هذا الانتماء.. فبعد ما جرى، أبطلوا سلاح الاتهام بالهجوم على الجيش برفض الحكم العسكري، أو بالسخرية من استدعاء الجيش لمهام غير قتالية، وعلى خط الجمبري!
وقبل هذا وبعده، لم يعد عبد الفتاح السيسي هو "الفك المفترس"، و"مرشح الضرورة" الذي لا يوجد من يمكنه منافسته، أو إسقاطه. وهذا الهجوم على شفيق هو لأنه يمثل خطراً حقيقياً على استمرار السيسي في الحكم، ومن هنا كان التعاون بين الإمارات والقاهرة على ضرورة تسليمه، وأخذ بناته رهائن في أبو ظبي، وممارسة ضغوطاً عليه حتى يتراجع!
وفي مداخلة هاتفية ببرنامج "العاشرة مساء"، بدا شفيق متراجعاً، وحتى لو أعلن فعلاً انسحابه، فإن العالم كله يقف على أنها الضغوط، من عبد الفتاح السيسي، لإدراكه أنه يفتقد للجماهيرية، وإن وقع الشعب المصري كله على "استمارة ترشحه"!
وهي "استمارة" موجهة للدوائر الإقليمية والدولية، لتؤكد أن السيسي لا يزال هو "معبود الجماهير" التي تريده لدورة ثانية، وربما ثالثة ورابعة، على نحو يمنحه الحق في تعديل الدستور، ليسمح له بأن يكون رئيساً مدى الحياة، وهي الخطوة التي كان مقرراً لها هذه الأيام، لكن أمراً دولياً صدر بالعدول عنها، فتم ترحيلها لفترة الولاية التالية، باعتبار أن نجاح السيسي في الانتخابات الحالية مفروغ منه، فليس هناك منافس حقيقي، لدرجة أن رجاله في الإعلام ينادون: هل من منافس؟!
وبطبيعة الحال، فإن الانتخابات سيتم تزويرها، ليس بهدف إنجاح السيسي، فلن يسقطه خالد علي، ولكن لزيادة أعداد المشاركين. وتأتي أهمية الاستمارة في أنها تمثل غطاء لهذا التزوير، وهذا يفسر الحرص على إجبار الناس على التوقيع عليها، وبحضور من أجهزة الأمن لا تخطئ العين دلالته!
وبإعلان شفيق الترشح، وبالضغوط التي مورست ضده، ولا تزال، لحمله على العدول عن قراره، فقد انتهى مفعول الاستمارة، وارتبك المشهد الداخلي، فلن نسمع في الأيام الأخيرة عنها شيئاً؛ فلم يعد هناك من يمكنه أن يجبر الموظفين وغيرهم على التوقيع عليها تحت التهديد. وباعتبار السيسي جاء باستمارة، ويريد أن يستمر باستمارة، والأولى كانت استمارة تمرد، والثانية هي استمارة "علشان تبنيها"، والتي تكاثرت إلى أكثر من استمارة، ولن نحتاج إلى تجديد فتوى الضرورات تبيح المحظورات، فلن يطلب رئيس مصلحة حكومية من مرؤوسيه التوقيع على الاستمارة، ولم تعد الاستمارات تمثل أي قيمة أمام الدوائر الخارجية التي تعني السيسي!
لقد تم تجريد السيسي من "الاستمارة"، أعز ما يملك!
أضف تعليقك