لكي نصل إلى إشعال الثورة العربية الثانية المرتقبة، والتي تكمن جذورها في قلب كل عربي وعربية، لا بد من تفادي أخطاء الثورة العربية الأولى. ولهذا، فمن الضروري أن نعرض بإيجاز لوقائع الثورة العربية الأولى التي دارت بين حزيران/ يونيو 1916 إلى أيلول/ سبتمبر1918؛ ضد حكم الدولة العثمانية، والتي فرضت معاهدة سيفر على الأتراك.
كان الشعب العربي، بخلفيته الدينية والقبلية، راضيا ومقتنعا بأن يحكمه الهاشميون. فقد اندلعت شرارة الثوررة الأولى في مملكة الحجاز، وأشعلها الشريف حسين بن علي الهاشمي، تحت إلحاح وإغراء بريطاني قام به ودعمه إدموند اللنبي وإدوارد لورنس، وفرنسي، ضد القوات العثمانية تحت قيادة جمال باشا ومحيي الدين باشا، نتيجة سوء معاملة أقطاب الدولة العثمانية للعرب. وبمقتضى الثورة، وزعت الأقاليم العربية على الهاشميين عبد الله الأول بن الحسين وفيصل الأول. وظهر بعد ذلك عبد العزيز بن سعود؛ الذي تمكن من إزاحة الهاشميين عن حكم الحجاز، وتدخلت فرنسا فسيطرت على سوريا ولبنان، وتم تثبيت التقسيم بمعاهدة سايكس بيكو الشهيرة.
وكانت مبادئ الثورة العربية قد وضعت بالاتفاق ما بين الحسين بن علي وقادة الجمعيات العربية في سوريا والعراق، في اتفاق شفهي غايته استقلال العرب وإنشاء دولة عربية واحدة.
وقد وعدت الحكومة البريطانية العرب، من خلال مراسلات حسين مكماهون (1915)، بالاعتراف باستقلال العرب، مقابل اشتراكهم في الحرب إلى جانب الحلفاء ضد الأتراك، لأن تفكيك الإمبراطورية العثمانية من مصلحة بريطانيا.
قامت الحكومه البرطانيه بتسليح العرب ودعمهم لخوض الحرب بالوكالة عنهم مع الاتراك، لأن استمرار الأتراك في التوسع في شبه الجزيره العربيه كان يهدد الدول الحلفاء.
وتكمن بذور هذه الحركة في التطلعات القومية العربية، والرغبة في بناء دولة عربية ناهضة؛ تنقل العرب من عصر الانحطاط والتخلف إلى الارتقاء الحضاري، ومن جهة أخرى في موقفهم من سياسة قادة الأتراك ومعاداتهم العرب، وخصوصا بعد انقلاب جمعيات عربية على الدولة العثمانية. وقد وجدت هذه الجمعيات في الشريف حسين وأولاده حليفا لها في أهدافها. وكانت اتصالات الشريف حسين بالإنكليز قد بدأت قبل قيام الثورة، عندما اجتمع الأمير عبد الله بن الحسين باللورد كيتشنر، المفوض السامي في القاهرة، خلال شهر فبراير 1914، والسير هنري مكماهون.
وفي الحقيقة كانت كل هذه التعهدات تغطية للخداع البريطاني على العرب، فقد كانت لبريطانيا مخططات مع حليفتها فرنسا لاقتسام الأراضي العربية لضمها إلى الممتلكات الاستعمارية عن طريق اتفاقية سايكس بيكو وأيضا إقامة وطن قومي يهودي في أرض فلسطين تحت الحماية البريطانية، وذلك في الوقت نفسه الذي التزمت فيه بالاعتراف بدولة الاستقلال العربي التي تضم فلسطين. وهنا اقترب العرب من إقامة الدولة العربية الموحدة في الجزيرة والمشرق، إلا أن بريطانيا بدأت تنفذ مخططاتها في التجزئة والاحتلال والإلحاق.
وفي معاهدة سيفر، تنازل العثمانيون عن نجد، والحجاز، وسوريا، والعراق، وكيليكيا، ومصر. وكان هذا ختاما لمرحلة النهضة العربية في القرن التاسع عشر، وشكّلت محطة مفصلية في تاريخ المنطقة، ووعيها.
وخضعت الشعوب العربية للحكام العرب الجدد على أمل دعم عروبتهم وتعزيز هويتهم العربية الإسلامية، بعيدا عن العثمانيين. ولكنها على العكس من هذه الطموحات، شهدت حكامها العرب في خضوع وطاعة تحت نفوذ الاستعماريين. وشجع هذا الضعف الغرب على تنفيذ مشروعه المعد سلفا بإقامة كيان موال له يزيح عنه ضغوط الشعوب العربية، فصدر وعد بلفور، وأقيمت إسرائيل التي قامت بحروب توسعية أوصلتها إلى البحر الأحمر، واحتلت الضفة الغربية والقدس؛ غير عابئة بالقرارات الدولية التي لم تكن إلا حبرا على ورق، حتى وصلت بنا الآن إلى ما يسمى صفقة القرن.
من بركات الربيع العربي أنه أثبت لنا بما لا يدع أي مجال للشك؛ أن مصير الحكام العرب والأنظمة العربية ليس بأيدي شعوبها أبداً، بل بأيدي كفلائها في الخارج. فقد وضح للشعب أن معظم الأنظمة الحاكمة والحكام العرب مرتبطون بالقوى العظمى، وأن تلك القوى كان لها رأي بوصول هذا الحاكم أو ذاك إلى السلطة في بلاده، لكننا لم نكن ندرك أن الرأي الأول والأخير في تعيين الحكام في بلادنا هو بأيدي القوى الخارجية، وليس بأيدي الشعوب ولا القوى الداخلية.
وهكذا؛ عانى المشرق العربي من سياسة الخليج القبلية والخاضعة للنفوذ الأجنبي، واستمرت المعاناة ما يراوح مئة عام، واستمرت المعاناة حتى وقتنا هذا؛ وتجسدها الأزمة الخليجية وحصار قطر، وإعلان الرئيس الأمريكي الاعتراف بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل.. وهكذا دمرت هوية العروبة، واقتلعت بذور الوحدة والقوة، ولم يعد أمام حكامها إلا الرحيل أو الالتحام بقضايا شعوبهم.
1.ولما كنا ننادي بثورة عربية ثانية تعيد للعرب هيبتهم وقوتهم، وهو ما أثبتته ثوة الربيع العربي التي تكتلت ضدها الدول العميقة والحكام الخاضعون للنفوذ الأجنبي، وإيمانا بأن الربيع العربي ما زال يغلي في صدورنا، فيجب أخذ دروس وأسباب فشل الثورة الأولى في الاعتبار، وتدارس عوامل نجاحها. ولعل أهم معطيات نجاحها هي أن تفرز الثورة قيادات جماهيرية كاريزماتية جديدة، بفكر جديد ترسم الطريق لإرساء نظم ديمقراطية في الوطن العربي؛ تقيّد الحاكم وتلزمه بتنفيذ إرادة شعبه، وتوعية الشعب العربي بأهميته وقوته، والحرص على هويته، وأن لا ينجرف إلى العولمة التلقائية التي تبثها الدول المتقدمة، بل يأخذ منها بحساب ما ينفع معيشته اليومية، ولا يستبدلها بعادات شعوب أخرى، ودعم وتأييد الحاكم العربي الدستوري والحق في عزله بالإجراءات التي ينص عليها الدستور، مع الاعتزاز بلغته وأدبه وتاريخه، دون أن يتخلى عن دراسة الحضارات واللغات الأجنبية، ووضع نظام محاسبي قوي لرصد منابع الدخل الوطني وإبعادها عن نفوذ الحاكم، والمضي قدما في التنمية وتحقيق الرفاهية، والتزود بأدوات القوة الكافية لردع أي عدوان على إحداها، على نمط ما تضمنته معاهدة الدفاع المشترك.
2.ومن الواضح أن هذا التغيير يحتاج إلى بعض الوقت؛ وقد يصل إلى عقد من الزمان، ولكن في كل الأحوال لن يغرب القرن الحالي قبل بزوغ قوة عربية إسلامية قوية ومسالمة، تحسن استغلال ثرواتها لمصلحة شعوبها، وليس لزيادة ثروات حكامها إلى أرقام مخيفة قد لا تتوفر لأغني الأغنياء في أمريكا وأوروبا.
أضف تعليقك