في البداية، لا بد أن أوجه الشكر للرئيس الأمريكي ترامب، على ما أسداه للأمة الإسلامية بممارساته العنصرية المتهورة، حيث ساهم بشكل أو بآخر في إعادة الروح للأمة، بعد موات وغياب لفترة طويلة على التأثير والفعل.
فبالرغم من كيده المتواصل للمسلمين، واتهاماته المتتالية بأنهم منبع الإرهاب، وسعيه الحثيث لإزالتهم من خريطة الكون، وبذله كل الجهود لخدمة الكيان الصهيوني، إلا أنه بتصديقه الأخير على قرار نقل سفارة بلاده إلى القدس، وإعلانها عاصمة للاحتلال، قد أشعل جذوة الشعوب وغيرتها على مقدساتها، وأعاد فيها الأمل مرة أخرى، بعد أن فقدنا الأمل في الساسة والحكام!
وفي هذا السياق، طبقا لما ورد في صحيفة "لي أوكي ديلا غويرا" الإيطالية، يمكن أن توجّه لترامب تهمتان:
ساهم قرار ترامب بشكل أو بآخر في إعادة الروح للأمة، بعد موات وغياب لفترة طويلة على التأثير والفعل
الأولى: في أن قراره ساهم في اندلاع انتفاضة جديدة في فلسطين، فعلى خلفية هذا الإعلان، اندلعت عدة اشتباكات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وقامت السلطات الإسرائيلية بالرد على هذه الاحتجاجات باستعمال السلاح لتتمكن من قمع الانتفاضة وهي في مهدها.
والثانية: يعتبر ترامب متهما، أيضا، بزعزعة الاستقرار في المنطقة، فقد أصبح قراره يُشكل عقبة في طريق تحقيق السلم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما شهدت الساحة الدولية موجة من الاحتجاجات من قبل وسائل الإعلام والرأي العام الدولي، ومن هنا يبدو جليا أن هذا القرار جعل ترامب في دائرة الاتهام، وقوبل، أيضا، بالرفض من قبل الاتحاد الأوروبي وروسيا، فضلا عن الاحتجاجات التي قامت بها الشعوب العربية أمام السفارات الأمريكية في جميع أنحاء العالم، تعبيرا عن تنديدها بهذا القرار.
أقول: إن هذا القرار أعطى للشعوب العربية والإسلامية في كل أنحاء العالم، مرة أخرى، الحق في التعبير عن غضبتها، بعد أن أصبحت القضية الفلسطينية غائبة عن قائمة اهتمامات الدول العربية. فنجد أن فلسطين تعيش انتفاضة شعبية حقيقية تحولت إلى انتفاضة عالمية ضد هذا القرار، وشهدت كل المدن الفلسطينية نهوضا شعبيا باسلا؛ وخاصة في مدينة القدس، وانتقلت الانتفاضة لمدن وبلدات الداخل المحتل عام 48، وتحولت هذه الانتفاضة الفلسطينية إلى انتفاضة شعبية عالمية، ولفرض المقاطعة الشاملة ضد إسرائيل، ومنتجاتها ومؤسساتها. وهذه مؤشرات طيبة على أن الأمة الإسلامية لا تزال تنبض فيها الحياة، ولا يزال قلبها يعمل، ولكنها تحتاج إلى انطلاقة متواصلة، تجدد لها هيبتها مرة أخرى التي اكتسبتها بالثورات العربية.
القمة الإسلامية أماطت اللثام عن زيف ادعاءات العديد من الدول العربية، التي ما فتئت تردد أن القضية الفلسطينية في صدارة أولوياتها
وهذا القرار، أيضا، كان سببا جوهريا في عمل كشف حساب للأنظمة الحاكمة وخصوصا العربية، تجاه القدس والقضية الفلسطينية، ظهر ذلك جليا في تمثيل تلك الأنظمة في قمة منظمة التعاون الإسلامي التي دعا إليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إسطنبول. فقد أماطت اللثام عن زيف ادعاءات العديد من الدول العربية، التي ما فتئت تردد أن القضية الفلسطينية في صدارة أولوياتها، فشهدنا غياب رأس الدولة في مصر والسعودية والإمارات، حتى أن البعض حاول عقد مقارنة بين هذا المشهد، والمشهد الآخر الذي حرصت هذه الدول، وغيرها، على الحضور والهرولة للقاء ترامب في الرياض في وقت سابق!
الاحتجاجات مطلوبة.. ولكن!
هذه الانتفاضة التي أحيت الأمة الإسلامية مرة أخرى، وأعادت لها بعض هيبتها، تحتاج إلى ديمومة واستمرار لاسترجاع الحقوق المسلوبة، ومواجهة الظلم والفساد الذي جثم على صدور الشعوب العربية والإسلامية لفترات طويلة، ومواجهة حقيقة للاستبداد الذي أحاط بالمنطقة من كل جوانبها، بدعم من أمريكا وإسرائيل، بل بدعم مباشر من دول عربية لا تزال تعمل عملها في تدمير منظومة العمل العربي المشترك، وتساهم بشكل كبير في تغييب الشعوب، وإهدار كرامتها وحريتها!
لا بد من وسائل وطرق مؤثّرة توقف هذا الاعتداء المستمر على المقدسات الإسلامية، وتعيد للشعوب العربية حقها المسلوب
أقول: لا بد من وسائل وطرق مؤثّرة توقف هذا الاعتداء المستمر على المقدسات الإسلامية، وتعيد للشعوب العربية حقها المسلوب، من الحرية والكرامة الإنسانية، من هذه الوسائل:
أولا: الاجتماع على كلمة سواء بين الشعوب، وإعادة القضية الفلسطينية إلى مكانتها الطبيعية في قلب اهتماماتنا. فهي القلب للجسد، والشريان الذي ينبض بالحيوية، ومحور حل مشاكل المنطقة برمتها.
ثانيا: تفعيل المقاطعة الاقتصادية ضد الكيان الصهيوني ومن يدعمه، فهي سلاح فاعل ومؤثر في تكبيد إسرائيل وحلفائها خسارة فادحة إذا استمرت لفترات طويلة، وأخذت أشكالا مختلفة ومتنوعة.
ثالثا: تفعيل دور العلماء والمثقفين في توعية الأمة، فالعلماء هم مصدر الوقود الذي يحرك الشعوب، ويبعث فيها الأمل والوعي بالمخاطر التي تحاك بالأمة، واستغلال حالة الإفاقة والنهضة التي رجعت للشعوب مرة أخرى.
رابعا: السعي بكل الطرق المشروعة لإزاحة الأنظمة المستبدة، وخصوصا في المنطقة العربية، فما ضاع حق وراءه مطالب. فالمسألة تحتاج إلى جهد متواصل وتكاتف الجهود، لإعادة المسار الديمقراطي مرة أخرى، لكي تستعيد الشعوب عافيتها.
خامسا: صناعة إعلام قوي لنقل الحقائق وتوعية الشعوب، من خلال برامج عاقلة وهادفة تنقل الناس من اللاوعي إلى الوعي، والمعرفة بالوسائل التي يمكن أن يساهم بها كل إنسان حسب إمكانياته وقدراته.
سادسا: دعم المنظمات والهيئات العاملة في ميادين العمل المجتمعي، فلهذه المنظمات، إذا أُحسن استخدامها، دور فعّال للمساهمة والمساعدة في توضيح الحقائق، وخصوصا المنظمات الطلابية، والنقابات المهنية.
سابعا: التواصل مع المنظمات والهيئات الدولية، ورفع القضايا القانونية في أحقية الشعب الفلسطيني على كامل أرضه، وأن ما تقوم به إسرائيل يدخل في أعمال الاحتلال طبقا لنصوص الأمم المتحدة، وأن قرار ترامب يخالف قواعد وأحكام القانون الدولي.
لا بد من بناء تحالفات قوية على مستوى المنطقة للحفاظ على المقدسات الإسلامية، وحمايتها من المعتدين
ثامنا: فضح الأنظمة والحكومات التي تدعِّم وتساند المحتل الصهيوني، أمام شعوبها والعالم، بكل الوسائل المتاحة، ودعم الدول والمنظمات التي تقف مع قضايا الأمة، ومساندتها في المواقف المختلفة.
تاسعا: لا بد من بناء تحالفات قوية على مستوى المنطقة للحفاظ على المقدسات الإسلامية، وحمايتها من المعتدين. فالعالم لا يستمع إلا للقوي، ولا ينصت إلا لصاحب التأثير.
عاشرا: يجب العمل على ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل، وإنهاء حالة الخصام بين الفصائل، والاتفاق على استراتيجية وطنية نضالية لمواجهة العدو الإسرائيلي.
وختاما: تحية للشعوب العربية والإسلامية التي غضبت للقدس بسبب قرار ترامب الجائر، فالقدس تشكل من جديد وعي الأمة، وهي فلسطينية عربية إسلامية، ولا يمكن لأي قوة في العالم أن تمنح القدس للمحتل أو تغير هويتها، وأن قرار ترامب لا يقل خطورة عن وعد بلفور.
أضف تعليقك