كثيرون هم الفلسطينيون الذين حفروا أسماءهم في سجل الشعب المقاوم، وسطروا في سفره أعظم الملاحم، وحفروا بدمائهم وأرواحهم تاريخ شعبهم، وخلدوا بمواقفهم صفحاتِ عز وطنهم وصورَ مجدِ أبنائهم، ورسموا للأمة بتضحياتهم العزيزة صورَ البطولة وأسطورة التحدي آياتٍ من العز والفخار.
“حاتم السيسي”؛ ابن مخيم جباليا أول شهداء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي خضبها بدمه، وشق طريقها باستشهاده، فحُفظَ اسمه وتخلد ذكره وذاع صيته، وسميت باسمه شوارع ومدارسٌ ومؤسساتٌ، وتسمى باسمه مئات المواليد، وما زال الفلسطينيون يربطون اسمه بالانتفاضة، ويعدونه نجمها الأول، وصاحب فضل السبق فيها، وإن تلاه شهداءٌ آخرون، وتبعه على ذات الدرب كثيرون.
وكذا كان الفارس الصغير، الطفل البطل المغوار، العنيد الجريء؛ “فارس عودة” الذي تحدى بحجرٍ دبابةً، وتصدى بصدره لجيش، فأغضب العدو وأغاظه، وقزَّم بثباته جنوده وضباطه، ومرغ بالتراب سمعتهم، إذ فضح تفوقهم، وكشف زيف قوتهم، ما أوقفته الدبابة، ولا أرعبته فوهتها الضخمة، فما كان من العدو إلا أن أجهز عليه حنقاً، ونال منه حقداً، وقتله غيظاً وغضباً، ولكن فارس سيبقى في ذاكرة شعبه ووجدانه هو الفارس.
أما الطفلة “إيمان حجو” فلا يبدو أن فلسطينياً قادرٌ على نسيان صورتها أو تجاوز حادثها، وهي الرضيعة التي لا يحتمل جسدها شوكةً تشوكها، فكيف برصاصةٍ تخترق صدرها وتخمد أنفاسها، دون ذنبٍ اقترفته سوى أنها فلسطينية، تنتمي إلى أمٍ فلسطينية، ترضع من صدرها حب فلسطين، وتنتسبٍ إلى شعبٍ مقاومٍ يناضل من أجل حقه.
أما “محمد الدرة” فيكاد لا ينساه أحدٌ، ولا يقوى إنسانٌ على أن يغفل صورته، أو أن يصم آذانه عن ندائه أو استغاثات والده، فقد قتله جنود الاحتلال الإسرائيلي وهو بين يدي والده، وأمام عشرات وسائل الإعلام وكاميرات التصوير، التي سجلت آخر لحظاته، وصورت الرصاصات التي اخترقت جسده الصغير، وهو الطفل الذي لا يشكل خطراً على العدو سوى في وجوده وبقائه، وتجذره في الأرض وثباته في الوطن، قتلوه برصاصهم ولكنه كما سيخلد في الجنة يوم القيامة، فقد خُلِّدَ في الدنيا، وأبقى الله على ذكره في الأرض، ورفع اسمه، حتى بات اسماً علماً ونجماً سامياً لا يطويه الزمن.
أما “هدى غالية” التي شهدت وهي طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها استشهاد سبعةٍ من أفراد عائلتها أمام عينيها، منهم والدها الذي بكته وصرخت في وسائل الإعلام ليصوروا والدها المسجى أمامها وهي تناديه وتبكيه، إلى جانب خمسةٍ من أشقائها، اليوم تبقى غالية تواصل الحياة من بعدهم، وتحمل الراية وتصر على المضي على ذات الدرب، وإن كان فيها حتفها أسوةً بأهلها.
واليوم, وخلال معركة الدفاع عن القدس، أمام رموزٍ جديدةٍ وأبطالٍ عظامٍ، لا يقلون عن السابقين، ولا يختلفون في بعضهم عن الشهداء الخالدين، فذاك مُقعَدٌ؛ على كرسيه المتحرك يتنقل، شامخٌ من مكانه يقاوم، وعظيمٌ من موقعه يقاتل، لم تمنعه رجلاه المبتورتان عن الحركة، ولم تقعده حالته عن أخذ دوره بين المتظاهرين دفاعاً عن القدس، واستنكاراً لقرار ترامب المقيت، وقد كان يعلم أن قامته بلا رجلين قصيرة، وأنه قد لا يُسمعُ جنود الاحتلال صوته وهتافه، فاعتلى تلةً عاليةً، ووقف فوق ربوةٍ مرتفعة، وبعالي الصوت صرخ في وجوه المحتلين، وبالحق الذي يسكنه نادى على العرب والمسلمين، وما كان يعلم أنه من مكانه فوق التلة شرق غزة سيسمع العالمين جميعاً صوته، وسيرفع بدمه قضيته، وسيكون له دورٌ في الدفاع عن قدسه والمسجد الأقصى، إنه الشهيد “إبراهيم أبو ثريا”، الذي سبق أن استهدفه جيش العدو في حرب عام 2008 على قطاع غزة بقذيفة دبابةٍ أدت إلى بتر ساقيه.
ولنا مع المقاومين الأحياء قصة ومعهم وقفة، فليست كل القصص تروى بالدم وتنسج بأنفاس الحياة، بل إن من المقاومين من يجعلون من أسمائهم علماً وهم أحياء، ويرسمون صوراً تفوق ما يرسمها الشهداء بدمائهم، كحكاية “عهد البرغوثي” الطفلة التي لم تتجاوز السادسة عشر من عمرها، ولكنها استطاعت أن تجعل بجرأتها وثباتها وصمودها، من نفسها رمزاً كبيراً وأمثولةً عظيمةً، وها هي اليوم أكبر من الجنود الذين داهموا بيتها، وأكثر شجاعةً من الضباط الذين اقتحموا بلدتها، ولعلها أشد ثباتاً من القضاة العسكريين الذين أرادوا استنطاقها، وحرصوا على إدانتها ومحاكمتها.
لكلِ مرحلةٍ نضاليةٍ رجالها وأبطالها، ولكل انتفاضةٍ فلسطينيةٍ رموزها وعناوينها، وعلاماتها ونجومها، وفي كل حربٍ وعدوانٍ تبرز أسماءٌ وتسمو عائلاتٌ، ويذهب آباءٌ ويبقى أبناءٌ، يحفظون النسل، ويحملون قصص المجد، ويصرون على حمل الراية ومواصلة المسير، هؤلاء هم الذي يميزون المراحل بمقاومتهم، ويتركون أثراً بالغاً في نفوس شعبهم، ويغيظون العدو بعظيم فعلهم ورمزية مقاومتهم، ويثيرون نقمته بذيوع قصصهم وانتشار أعمالهم وتقليد أفعالهم، إذ يذكر الأهل مجدهم ويكررون قصصهم، ومنهم يتعلمون وبهم يقتدون وإلى مجدهم التليد يتطلعون، وهم جمعٌ كبيرٌ يصعب حصرهم، لأنهم كثيرٌ على مدى الزمن وعلى طول المرحلة كلها.
أضف تعليقك