لم يكن إعلان دونالد ترمب حول الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل مفاجئا، فقد قدم هو ونائبه خلال سباقهم الانتخابي وبعد التنصيب العديد من الوعود في هذا السياق، ومع ذلك لم تراوح ردة الفعل العربية والإسلامية -حتى الآن- خانة الخطابات والانفعالات العاجزة، وبدا أن الجميع مأخوذ بعنصر المفاجأة!
ومن البديهي القول بأن خطوة ترمب تفتقر للأساس القانوني وذلك لتعارضها مع عشرات القرارات الأممية حول وضع القدس، بما في ذلك تلك الصادرة عن مجلس الأمن، إضافة للرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية عام 2004، لكن عدم قانونية وشرعية الإعلان الأميركي لا يعني أنه لا قد يشكل خطورة جادة على وضع القدس في القانون الدولي مستقبلا.
العرف الدولي حول القدس
في الوقت الراهن لا يعني الإعلان الأميركي تغييرا للوضع القانوني للقدس، ذلك أن الولايات المتحدة بذاتها لا تمتلك صفة قانونية مخولة للتشريع الدولي، لكن الخطر يكمن في حال انتقال عدوى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل إلى عدد من العواصم العالمية، لا سيما تلك المنخرطة بشكل أو بآخر بمسار السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إذ أن شكلا من الإجماع حول هذا الرأي (اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل) أو شكلا من الممارسة لهذا الرأي (نقل سفارات حيوية إلى القدس) قد يعني الكثير في المستقبل.
هذا المدخل يُرجعنا إلى دراسة مصادر التشريع في القانون الدولي، ثم إلى دراسة المسار التاريخي الذي من خلاله اكتسبت القدس وضعها القانوني الحالي؛ فمن حيث المبدأ، رتبت المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية مصادر القانون الدولي الأساسية على هذا النحو: المعاهدات والاتفاقات الدولية العامة والخاصة التي تعترف وتصادق عليها الدول كاتفاقيات جنيف وغيرها، ثم العرف الدولي في شقيّ الرأي والممارسة الواسعة والمستقرة، وأخيرا المبادئ العامة التي أقرتها الأمم.
ما يهمنا هنا هو "العرف الدولي"؛ إذ يشكل المصدر الثاني من مصادر القانون الدولي، وفي أية عملية تحاكُم أمام محكمة العدل الدولية، يبدو العرف ذا وجاهة قانونية راسخة، وقد شهد تاريخ القضية الفلسطينية، وغيرها من النزاعات عجزا من قبل المجتمع الدولي أمام مخالفة قرارات الأمم المتحدة بما فيها مجلس الأمن، بل وأصبح الكثير من هذه المخالفات مسكوتا عنها عرفا.
هذا من حيث العموم، أما بخصوص القدس، فقد كان العرف أحد المصادر التي شكلت ما بتنا نسميه اليوم الوضع القانوني لمدينة القدس، وذلك ضمن عملية تراكمية بدأت منذ عام 1947 وحتى يومنا هذا، فنجد على سبيل المثال أن قرار التقسيم 181 (1947) أفرد للقدس حالة خاصة أسماها الكيان السياسي المنفصل (Corpus Separatum) وضعها كاملة تحت الوصاية الدولية، لكن ومنذ الاحتلال الإسرائيلي لشرقي القدس عام 1967 بدأت الأمم المتحدة بالتعاطي مع المدينة وفق أسلوب جديد؛ إذ اعتبرت "القدس الشرقية" حصرا جزءا من الأراضي المحتلة عام 1967، وبالتالي لم تعترف بالسيادة الإسرائيلية عليها وطالبت الاحتلال بالانسحاب منها، فيما رضخت للعرف القائل بكون "القدس الغربية" جزءا من حدود "إسرائيل"، وبذلك تكون قد تحللت مما ألزمت به نفسها سابقا (قرار 181) فيما يتعلق بكون القدس بشطريها الشرقي والغربي لا تخضع للسيادة الإسرائيلية.
إذن فإنّ توفر عدد واسع من الدول، لا سيما الدول ذات الثقل الوازن أو تلك المنخرطة بصورة مباشرة بأحد مواطن النزاع تتفق على ممارسة ثابتة ومستدامة عبر فترة معتبرة من الزمن، وتعتقد بصوابية هذه الممارسة وبطلان ما دونها، يشكل ما يسمى بـ"العرف الدولي" أو الاتفاق الضمني داخل المجتمع الدولي، والذي لا يلبث أن يتم تبنيه كمركب راسخ في القانون. ولعل مثال التسليم بأحقية السيادة الإسرائيلية على "القدس الغربية" مثال واضح على ذلك.
لم يقتصر الأمر على مسألة القدس، بل ساهم الضعف الفلسطيني والتفوق الإسرائيلي المدعوم بانحياز الوسيط الأميركي في تآكل عدد من الحقوق المنصوص عليها في قرارات أممية لا تقبل التأويل، مثل حق عودة اللاجئين، حيث إن العجز عن تثبيت هذا الحق المنصوص عليه في قرار 194 (1948)، قلّص الحديث عن عودة جميع من يرغب من اللاجئين ودعم إعادة توطينهم في أراضيهم التي خرجوا منها" وتعويضهم عن فترة الشتات، إلى هامش الحديث عن "حل عادل متفق عليه".
ولعل من يستخدم اليوم لازمة التشبيه بين وعد بلفور و"وعد ترمب" حول القدس، لم يستخدم في كلامه مجرد التمثيل البلاغي؛ فوعد إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، تم إقحامه بقوة التفوق السياسي ليكون جزءا من الشرعية الدولية في ذلك الوقت، حين نجحت بريطانيا في إلحاق مضامين وعد بلفور إلى نص الانتداب في فلسطين الصادر عن عصبة الأمم المتحدة عام 1922.
المطلوب لإبطال القرار
في ظل حالة التفتت العربي والإسلامي وغياب الإرادة، قد لا يبدو مفيدا الحديث عن خطوات رسمية قادرة على حمل الإدارة الأميركية على سحب إعلانها بخصوص القدس، لكن الحديث يجب أن يتركز على إبطال مفعول هذا القرار وإبقائه مقترنا ومحصورا بإدارة ترمب، والحيلولة دون انتقاله إلى خانة ما هو مقبول ومتفق عليه دوليا.
ولتحقيق هذا الهدف الذي يقع في الحدود الدنيا مما هو مطلوب، يلزم أكثر بكثير مما قدمته قمة منظمة التعاون الاسلامي المنعقدة مؤخرا في Yسطنبول من بلاغات حادة ضد الولايات المتحدة و"إسرائيل"، أو من اعتراف بـ"القدس الشرقية" عاصمة لدولة فلسطين، لا سيما أن غالبية دول منظمة التعاون تعترف بـ"القدس الشريف" عاصمة لفلسطين في جوهر اعترافها المعنوي بالدولة المستند إلى إعلان منظمة التحرير لعام 1988.
وعلى الرغم من كون إعلان ترمب يمثل موقفا سياسيا أكثر من كونه خطوة إجرائية، فإن أهميته تنبع من قوة الفاعل السياسي، وفي ظل انتفاء القوة لدى المفاعيل العربية والإسلامية فإن اتخاذ مواقف سياسية كالتي صدّرتها القمة، لا يعدو كونه محاربة لطواحين الهواء، ويلزم التركيز أكثر على ما هو إجرائي وعملي.
ومن هذه الإجراءات باب الخيارات الأممية التي استخدمتها السلطة الفلسطينية كورقة مساومة للجلوس إلى طاولة التفاوض، ومع رفع ملف القدس من الطاولة ووضعه في الجيب الإسرائيلي، من الذكاء أن تفعل القيادة الفلسطينية ورقتها الأخيرة وإلا لفقدت ما تبقى لها من شرعية وجدوى وجود، كما يتوجب على المجموعة العربية والإسلامية أن تضع ثقلها في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة للدفع باتجاه قرار يدين الخطوة الأميركية أسوة بقرار 478 (1980) الذي جرّم إعلان "إسرائيل" القدس الموحدة عاصمة لها، إذ إن أي قرار من هذا النوع يعزز عزلة الخطوة الأميركية ويشكل رادعا لبقية الدول.
وإذا كانت الدول الصديقة لفلسطين اليوم تجد صعوبة في اتخاذ مواقف حازمة ضد الولايات المتحدة باعتبارها قوة عظمى، فإن باستطاعتها أن تبرهن عن عزمها الجاد على تفعيل إجراءات عقابية ضد الدول التي تفكر بأن تحذو حذو إدارة ترمب، كما يُنتظر من منظمة التعاون الإسلامي أن تؤسس لعمل منظم يعيد الهيبة لفكرة المقاطعة الاقتصادية للشركات والهيئات التي تدعم المشروع الاستعماري الإسرائيلي أينما وجدت.
هذا مع أهمية التركيز على استهداف المصالح الاقتصادية القريبة من دائرة صنع القرار الأميركي، إلى جانب اتخاذ كل خطوة من شأنها معاقبة وردع الكيانات والدول التي تتنكر للحق العربي والإسلامي في القدس، بهدف احتواء الخطوة الأميركية قدر المستطاع ومنع تحولها إلى أمر واقع يقبله المجتمع الدولي ويترسخ في عرفه وقانونه.
أضف تعليقك