وكانت المُفاجأة، عدم وجود كنيسة في أطفيح، وهو ما استدعى لسطح الذّاكرة، أحد المشاهد السّاخرة في مسرحيّة «شاهد ما شفش حاجة»!
فعادل إمام، أو سرحان عبد البصير، طالبتْه «هيئة التليفونات» بالمُستحقّ على هاتفه المنزليّ، وقد خيّرته بين الدّفع أو رفع «عِدّة» التليفون، وكان المُضحك عدم امتلاكه خطّ تليفون، ومع ذلك فقد خاف على «العِدّة»!
فالإعلام نصَب «مَناحة»، ينصبها كثيراً في مثل هذه المُناسبات، لأنّ الأهالي في قرية «أطفيح» بمُحافظة الجيزة، هجموا هجمة رجل واحد على الكنيسة، لحظة تركيب جرس لها، وقام دُعاة الدولة المدنيّة، بلطْم الخدود، وشقّ الجيوب، وقد طالبوا السّلطة بالضرب بيدٍ من حديدٍ على هؤلاء «الهمَج» الّذين خرجوا على القانون، وطالبوا بعدم الرّحمة معهم، وجدّد نَفَرٌ من «أقباط المهجر»، العزف من جديدٍ على نغمة الاضطهاد الدينيّ في مِصر، وتحرّكت قوّات الأمن فألقت القبض على عددٍ من الجُناة المُتطرّفين، وقرّرت النّيابة العامّة حبسهم خمسةَ عشرَ يوماً، ليتبيّن بعد هذا عدم وجود كنيسة من الأصل في مكان الحادث!
في البداية، لفت انتباهي، وأنا أنظر في الصّور المنشورة لتجمهُر الأهالي ضدّ تعليق جرس للكنيسة، عدم وجود كنيسة وعلى «مدد الشوف»، ومع ذلك فقد راعني أنّ الأهالي لم يغضبهم بناء الكنيسة، وارتفاع مئذنتها، ولكن أغضبهم الجرس، وطرحت عدداً من الأسئلة، لم أتلقّ عنها إجابة، مثل تاريخ بناء هذه الكنيسة، ولماذا تأخّر تعليق الجرس إلى الآن مع أنّه من الأدوات اللازمة لأيّ كنيسة؟.. ولماذا لم يغضب الأهالي من مجرّد الجرس، ولم يغضبهم من بناء الكنيسة وارتفاع مِئذنتها، قبل أن نكتشف الحقيقة المُرّة، وهي أنّه لا كنيسة هناك!
بَيدَ أنّ المَناحة المنصوبة، مطلوبة في حدّ ذاتها، لاسيّما أنّ هناك مَن يستغلّون الحوادث الطائفيّة، للتأكيد على انحيازهم لدولة القانون، ورفضهم التّعصب الدينيّ والاجتماعيّ، وأيضاً للتأكيد على انحيازهم للدّولة المدنيّة، كما أنّ السلطة تُريد أنْ تُرسل رسالة إلى الغرب، بأنّ المصريّ مُتعصّب بطبعه، فيضيق صدره لمجرّد تعليق جرس في كنيسة، ومن هنا وجب على الغرب والدّول المُتقدّمة، أن تنحاز لسُلطة القمع، فلولا هذا القمع لما أبقى المِصريّون على كنيسة في مِصر. كما أنّها رسالة تخويف للمسيحيّين، والانتخابات الرّئاسيّة على الأبواب، فكما حشدت الكنيسة رعاياها للخروج ضدّ الرّئيس المُنتخب، فعليها أن تحشدهم لإعادة انتخاب السيسي، الحامي لوجود الأقباط في مِصر. وهو حادث مهمّ، ليُعطي مبرراً للمسيحيّين الّذين يطلبون اللجوء السياسيّ في بلاد المهجر، «فسِكّة أبو زيد كلها منافع»، كما يقول المثل!
ليقود المشهد بينما المناحة منصوبة، إلى نكتة الموسم؛ فلا توجد كنيسة، وهو ما توصّلت إليه بعد قرار النّيابة العامة بحبس صاحب المنزل، لأنّه حوّله إلى دار عبادة بالمُخالفة للقانون، فإذا بأنصار دولة القانون، وكأنّهم أكلوا «سَدّ الحَنَك»!
فنحن أمام واقعة، جديدة قديمة، تحدث كثيراً، وهي المسؤولة عن الكثير من حوادث الفتنة الطائفيّة، عندما ترتفع الأصوات، تتحدّث عن عدم احتمال الأهالي في صعيد مصر وريفها لمجرّد وجود كنيسة، لتكون الحقيقة الّتي أعرض عنها الجميع حتّى لا تفسد عليهم أحزانهم، أنّه لا كنيسة هناك ولا يحزنون، ولكنه تصرُّف من الأهالي مخالف للقانون في مُواجهة بناء مُخالف للقانون يريد أنْ يفرض على المُجتمع سياسة الأمر الواقع، والّذي يزيد الأمور تعقيداً أنّ الأحزاب اليساريّة والّذين ينتحلون صفة الدفاع عن القانون ودولته، يتحرّكون لرفض تصرُّف وغضّ الطّرف عن تصرُّف آخر، عندما يجدون أنفسهم أمام أزمة يبدّدون فيها طاقتهم النّضاليّة، ما داموا أعجز من أنْ يُناضلوا في ميادين النّضال الحقيقيّة خوفاً من السُّلطة الجائرة!
ولدراسة الأمر من منظور أنثروبولوجيّ، فإن المُجتمعات التّقليديّة، ترى أنه مناط بها فرض القانون، والحفاظ على الأوضاع القائمة، إذا كان فرض الأمر الواقع، سيغيّر في خريطة المُجتمع، لاسيّما أنّ الطّرف المخالف للقانون، يستقوي بالغرب، وقد رأينا في حادث الكُشح الشّهير كيف أنّ الأنبا ويصا، قال إنّه على اتّصال بالرئيس الأمريكيّ رأساً، وهو يقول هذا حملَ سلاحه، وكان طرفاً في المُواجهة ضدّ الشّرطة هذه المرّة، ورغم نشر صور له بسلاحه، فلم تجرؤ السُّلطة على تقديمه للمحاكمة، ولم يرَ دُعاة الدولة المدنيّة في هذا التصرُّف خروجاً على القانون، فصمتُهم يجعل ادعاءهم باطلاً بطلاناً مطلقاً!
في بعض هذه الحوادث، فإنّ أجهزة الأمن هي مَن تحرّض الأهالي على التدخُّل لوقف هذا العدوان على القانون، لأنّها لا تُريد أن تكون طرفاً ظاهراً، ولأنّها تخشى من تطبيق القانون، فيتمّ اتهامها بانتهاك حقوق الأقلّيات، ولن تجد في هذه الحالة من يسند موقفها ممّن ينتحلون صفة المُدافعين عن دولة القانون!
إنّه منزل إذن، وليس كنيسة، وهو كذلك فلا صفة للأهالي في تطبيق القانون ووقف العدوان عليه، ولا يجوز، في المُقابل، الصمت على مُخالفة القانون بتحويل بيت إلى دار عبادة، بالمُخالفة للقانون، وينبغي إدانة الأوضاع التي تجعل رجال الشرطة عاجزين عن تطبيق القانون، مع أنّهم في أحوال أخرى يركلونه بطرف نعالهم!
في السّابق، كان هناك مُبرّر لتحويل المنازل إلى كنائس، فقد كانت الجهة الإداريّة تتعسّف في منح المُوافقة على بناء الكنائس وترميمها، ولكن مِصر الآن تعيش في كنف سُلطة أقرّت قانوناً لبناء وترميم الكنائس، وَفْقَ ما قرّرته الكنائس المِصريّة نفسُها، كما أنّ عبد الفتاح السيسي يبدو كريماً للغاية إلى درجة منح مُهلة للكنائس غير المرخّصة لتوفيق أوضاعها!
والحال كذلك، فلا مُبرّر الآن لمُخالفة القانون وتحويل منزل إلى دُور عبادة، فإذا كانت السُّلطة لا تتجاوب مع القانون الجديد، فينبغي إعلان هذا، حتّى لا يتمّ تبرئه السيسي وإدانة المُجتمع!
ومهما يكن، فنحن أمام حالة من النّفاق السياسيّ، عندما يَنْفِرُون خفافاً وثقالاً، في مُواجهة خروج الأهالي في أطفيح على القانون، ثمّ يختفون في ظروف غامضة إزاء مُخالفة صريحة للقانون تتمثّل في تحويل منزل إلى كنيسة.
إنّه الكفاح الفاشل
أضف تعليقك