صدق ترمب جماهيره وعوده المجنونة، نفّذ تهديداته الرعناء، ووقّع أمرًا بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، منفّذًا الخطوة التي ادّخرتها الولايات المتحدة سنين طويلة، لتجعلها خاتمة عملية السلام، وورقة الإدارة الأمريكية الأخيرة في الضغط على حليفتها "إسرائيل". لوّح ترمب بخطوته مرارًا، وفشلت السلطة في تقدير موقفه رغم وضوح الدلائل، وبلغ بها السفه وسوء التقدير إلى التعبير عن التفاؤل بالرئيس ترمب، على لسان حسام زملط رئيس مفوضية منظمة التحرير في واشنطن، في تصريحات كوميدية أدلى بها قبل أشهر قليلة من الإعلان المشؤوم.
ثمّ كانت ردّة فعل السلطة دون الحدّ الأدنى الوطنيّ، إذ كان في مقدورها اغتنام الحدث الكبير لتصحح أوضاعها مرّة واحدةً وإلى الأبد، كما يقولون، فلم تقدّم السلطة موقفًا سياسيًّا ولا عمليّا واحدًا تردّ به على الجريمة النكراء، بل اكتفت بالخطب الحماسية، والتهديدات الجوفاء، بلا مضمونٍ واحدٍ مهمّ.
على الصعيد السياسيّ، كان بوسع الرئيس عباس أن يسحب اعتراف المنظمة بإسرائيل، وأن يجعل ذلك مقابل الانقلاب على الاتفاقيات، والمسارعة في الخطوات الأحادية للعدوّ، وخذلان الراعي الرسميّ لعملية السلام، كان بوسعه أن يقول: تنازلنا واعترفنا من أجل مقابل، أو على أمل مقابل نناله، والآن بعد أن ضاع المقابلُ وقُطعت فيه الآمال، فإننا نسحبُ اعترافنا، أو غير ذلك، لكنه اكتفى بالتهديد دون التحرّك قيد أنملة، ولو نظريًّا!
أما على الصعيد العمليّ، فالأمرُ أسوأ وأنكى، فلم توقف السلطة التنسيق الأمنيّ ساعة، وقد كان فرصةً لتغسل عن نفسها عاره، وتضغط على العدوّ ضغطًا حقيقيًّا، وتجعله يدفع قليلًا من ثمن عنجهيته واستكباره، لكنّ قادة السلطة يعلمون أنّ التنسيق الأمنيّ هو أكثر من واجب مقدّس، إنه سبب وجودهم، وسرّ بقائهم، وسُلطتهم كلّها رهينة به، ولذلك لم يُطرح على طاولة القيادة المساسُ به إطلاقًا.
كان بوسع الرئيس عباس أن يتقدّم في طريق المصالحة الوطنية، بما يجعلُ الجبهة الفلسطينية أقوى في وجه الاحتلال، وأمام العالم أجمع، ويجعل قوة فصائل المقاومة ورقةً في يده، ولو ظاهريًّا، لكنّه أمعن في التنكيل بغزة، ونكص عن الاتفاقات الموقعة، والالتزامات التي لم يجفّ حبرُها بعد، وخذل أهل غزة الذين لم يخذلوا القدس ولم يبخلوا عليها بدمائهم وأرواحهم رغم الثمن الكبير الذي قد يدفعونه وحدهم إذا ما نشبت الحرب.
كان ينبغي لجريمة ترمب أن تُنهي المسار السياسيّ للرئيس عباس وسلطته، نهاية كريمةً على يده، أو غير كريمةٍ بقرارٍ شعبيّ يسحبُ بساطَ الشرعية المهترئ من تحته، وقلمَ التوقيع باسم الشعب من يده، لقد كانت رسالةً باستحالة الخروج بمنجزٍ واحدٍ عن طريق التفاوض مع عدوّ جشع، تحت مظلّةٍ بالغة الانحراف والميل لصالح ذلك العدو، لكن المضحك المبكي أنّ الرئيس عباس استطاع قلب الأمر لصالحه على ما يبدو.
فبعد مدّةٍ طويلة من فتور العالم عن الرئيس عباس، وبُعده عن المحافل الإقليمية والدولية، إذا هو يطوف العالم باسم القدس، ويعقد القمم مع الرؤساء والكبراء، ويقودُ المعارك الوهمية -ولستُ ضدّها بحال- في الأروقة الدولية، ويسجّل النجاحات على الورق، بينما العدوّ على الأرض يأكل الأخضر واليابس، وينتقل من القدس إلى رام الله والخليل ونابلس وجنين وسائر بقاع الضفة، كما قرّر مؤتمر الليكود بالأمس!
وبدلًا من أن يكون إعلان ترمب فرصة لتصحيح المسار الفلسطينيّ برمّته، فإذ بالرئيس عباس يستغله لبيع الكلام والأوهام من جديد، ويصوغ منه انتصاره الخاصّ، لا على أمريكا و"إسرائيل"، ولكن على الشعب المنكوب به وبسلطته، فيسوّق نفسه بطلًا بغير بطولة، صانعًا لانتصارٍ موهوم، ومانحًا نفسه دفعةً جديدةً وقوية في طريق تضييع فلسطين.
منذ أسابيع، ومن اللحظة التي أطلق فيها ترمب رصاصة الرحمة على عملية التسوية، تنادت ثُلّة من شباب فلسطين لعقد مؤتمرٍ شعبيّ يسحبُ من المنظمة ومن كلّ كيانٍ فلسطيني أو عربي أو دوليّ، صلاحية التنازل عن القدس، وعن أي شبرٍ من أرض فلسطين التاريخيّة، فلم تجد تلك الدعوة صدىً، بل قوبلت بردودٍ طوباوية تدعو إلى تركيز الجهود نحو الاحتلال، وتسديد البوصلة نحو القدس، بعيدًا عن أي صراعٍ جانبيّ، يفرّق الصفّ ويشتت الجهد.
وبينما كان الناسُ في هذا يفكّرون، يقدّمون خطوةً ويؤخرون، لم يكن الرئيس عباس يعبث، لقد حزم أمره ودبّره، ورسم بدقة خطّته، أن يهرب إلى الأمام، ويمضي قدمًا في طريقه العدميّة، أن يُعرض عن القدس وغزة، ويتاجر بهما حتى آخر رمق.
منذ أيام، تداول النشطاء الفلسطينيون على مواقع التواصل، صورةً لدورية شرطية فلسطينية، تمرّ عن دورية لجنود الاحتلال تمارس هوايتها المعتادة في ملاحقة شباب فلسطين واعتقالهم، كان الجنديّ الصهيونيّ يعطي ظهره للدورية الفلسطينية، آمنًا جانبها ومطمئنًّا إليها، بينما ينكّل بالشابّ الفلسطينيّ الذي سقط أمامه! تساءلت: في أيّ كوابيسنا تخيّلنا أن يمرّ فلسطينيّ مسلّح على مشهد كهذا مرور اللئام، وأن يطمئنّ العدوّ إليه وإلى سلاحه هذا الاطمئنان!.
إنه والله الموقف الحقيقيّ المعبّر عن عبّاس وسلطته، لا الخطابات الحماسية، ولا التهديدات التحايليّة، هذه هي السلطة وهذا هو ردّها على عُدوان "إسرائيل" واستخفاف أمريكا.
ورغم ذلك كله، لا زالت بقيّة من أملٍ معقودةٌ على شباب فلسطين، الذين ركضوا نحو بلادهم بلا أقدام، وفتياتها اللواتي صفعن الجنود وقطّعن شعور المجندات، وما خِفن شارةً ولا سلاحًا، فعلى هؤلاء بعدَ الله تنعقد الآمال، وبهم تتصبّر القلوب، "والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
أضف تعليقك