لا شكّ في أن ما يتصدّر أولوية التعقيب على الأحداث في إيران الآن؛ هو تحليل دوافعها، وتوقّع تحولاتها وممكنات اتساعها أو احتوائها.
ويتصل بذلك كلام لا يقلّ أهميّة، وإن عددناه هامشًا؛ باعتبار دورانه حول الحدث لا في صلب الجاري منه، ومن ذلك:
(1)
حركة التاريخ أوسع من توقّعات البشر وأقوى. فمهما كانت قراءة النظام الحاكم في إيران لأوضاع المجتمع الإيراني، والعُصب المجتمعية والسياسية القائدة والمؤثّرة والمحرّكة فيه، وسواء توقع احتجاجا من هذا النوع أم لا، فإنّه كان يعيش نشوة النجاحات الخارجية؛ المستندة إلى طموحاته وطول نفسه وجرأته ومبادرته وسخائه، في حين يغرق خصومه في الفشل المتتابع، والارتباك إزاء دأبه ومراكمة إنجازاته.
والحاصل، أنه لا انفكاك بين كل من الأوضاع الداخلية والسياسات الخارجية، وأنّ النجاحات في أي منهما قد تكون حجابا كثيفا عن الرؤية الشاملة والواسعة والدقيقة. والأهمّ في هذا، أنه لا حصانة لأحد من حركة التاريخ ومن الفاعلين على مسرحه من الناس؛ من الذين لا تدري متى ينفجرون وكيف.
وإيران من أَولى الجميع بإدراك ذلك. فهي من ناحية؛ دولة قامت على أكتاف واحدة من أهمّ الثورات المعاصرة، قلبت إيران وغيّرت مسارها ومجراها، وظلّت تؤثّر في محيطها العربي والإسلامي، إلى أن صارت أكثر حضورا وتأثيرا مباشرا كما هو الآن، ومن ناحية ثانية، دولة حيّة، تتجدد فيها الاحتجاجات الواسعة مرّة كل عشر سنوات تقريبا.
وهذا، وإن دلّ على حياة المجتمع والسياسة في إيران، وقوّة التدافع الداخلي فيها، وتنوّع الفاعلين وتعدّد مصالحهم واختلاف أطرهم السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية على نحو فاعل ومؤثّر.. فإنّه في المقابل سبب لانفجارات واسعة، قد تحرج النظام أو تتعبه أو تنوء بقدرته على الاحتواء، وذلك بالنظر إلى ما سبق، بالإضافة لطبيعة لنظام وتركيبة البلد، والتحديات الخارجية والمخاطر المحيطة بهوالمتداخلة معه.
وهذه الاحتجاجات تأتي في ظرف سيولة وتحوّل واسع لا يقتصر على البلاد العربية، بل يطال الإقليم كما هو واضح، وفوق ذلك العالم. وإيران من أكثر بلاد العالم انغماسا في إقليمها، ولا سيما في البلاد العربية، وهو أمر بتفاعله مع الظروف والعوامل سابقة الذكر، وإن عزّز من إمكانية انفجار الأمور بإيران، فإنّه من جهة أخرى يؤكّد أن مرحلة التحولات ما تزال قائمة، وأن النهايات بعيدة، ليس بالنسبة لإيران فحسب، بل لجميع دول الإقليم، وفي القلب منها البلاد العربية.
والخلاصة هنا، أنّ أيّ حسابات لا تأخذ احتمالات التحوّل بعين الاعتبار، هي حسابات خاطئة بالتأكيد.
(2)
في الموقف من الأحداث الإيرانية، تنكشف مجددا لعبة الغطاء الطائفي. فمع أن العامل الطائفي، وما يتصل به من عقائد دينية أو بنى اجتماعية، ينبغي اعتماده بقدره في تحليل السياسات ومحاولة فهم الفاعلين، فإنّ تحويله إلى خطاب تروّجه السياسات المتصارعة خديعة كبرى، يسقط في فخّها الكثير من الفاعلين الشعبيين الذين يُفترض أن يتنبّهوا لمكائد الفاعلين الرسميين، وألا يندرجوا في خططهم، وألا يتحوّلوا إلى أدوات في دعايتهم.
يبدو الانكشاف الآن في كون الخطاب الذي جعل التشيع الإيراني سببا من بين أسباب الصراع مع إيران؛ قد تنازل عن هذا السبب لصالح العناصر السياسية والمصلحية. فالمحتجون شيعة، كما أن الحكومة أو النظام المحتج عليه شيعة، ومن بين المحتجين عناصر محافظة تعترض في الأساس على سياسات روحاني الاقتصادية لا على النظام نفسه، بمعنى أن الحركة الاحتجاجية فوضوية، ومتعددة الاتجاهات، وتفتقر لوحدة الفاعلين ووحدة الهدف، وبالتالي لن يؤدّي الغطاء الطائفي دوره جيدا في هذه الحالة، فالشيعة في النهاية - كما هو واضح - ليسوا شيئا واحدا، مهما قيل عن مشتركاتهم الاعتقادية والمذهبية.
وفي العادة، لا تُظهر الحكومات والأنظمة تَغطّيها بالخطاب الطائفي، ولكنها تترك مهمة تغطية سياساتها به لأدوات دينية وإعلامية وثقافية، مثل بعض الاتجاهات الدينية والشخصيات الإعلامية.. هذه الاتجاهات والشخصيات يسقط كثير منها اليوم في هذا الانكشاف، إذ تكفّ عن التحريض الطائفي، للتحريض السياسي على النظام الإيراني، والمعيار في ذلك، أو محدّد الاتجاه، هو الحكومات المُستخدمة لتلك الاتجاهات والشخصيات، والمُمَوّلة لها، فالمعيار في الحقيقة هو عداء حكوماتهم المشغّلة لهم لإيران، وليس تشيع إيران من عدمه.
وبهذا تتضّح إشكالية الطائفية أن تتحول لدى الفاعلين من حركات الإصلاح والمعارضة - الذين يُفترض أنهم ليسوا جزءا من مشروع الحكومات والأنظمة العربية - من أداة تحليل من بين جملة أدوات إلى خطاب يغلب على مجمل التحليل ومن ثمّ على الموقف، وعلى نحو يحجب عن إمكانية الفهم الصحيح، والانسياق داخل مشاريع وسياسات هي مشاريع وسياسات الأنظمة التي تعارضها.
أضف تعليقك