تخيل نفسك في ملابس الإعدام الحمراء، صدّق المفتي على قرار إعدامك، وحدّدوا موعد التنفيذ، وصارت المسافة بين روحك وخالقها مساويةً تماماً للمسافة بينك وبين ورقة وقلم، لتكتب رسالتك الأخيرة إلى الخلق والخالق، هل يمكن أن تقول شيئاً غير الحقيقة؟ هل يمكن أن تفكر في الذهاب إلى الحساب أمام الله كاذباً أو حاملاً رواية مزيفة؟
لحظة الموت هي لحظة الحق، والاعتراف، وطلب المغفرة، إن كان ثمة خطيئة، والشكوى إلى الله، إن كان ثمّة ظلم وغدر، تلك هي الطبيعة البشرية، كما خلقها الله، وكما سبر أغوارها علماء النفس، ومن ثم تبقى كلمات ضحايا الإعدام الأخيرة، قبل الذهاب إلى الله، وثيقة إدانةٍ لمن ظلموهم، وشهادة أخيرة، نابعة من أصدق مناطق الروح قبل صعودها.
كانت المذيعة المحرّضة على الدم تتراقص في فستانها الأحمر مع المطرب الشاب على خشبة المسرح، مردّدة “يا سلام على حبي وحبك”، في اللحظة التي كان فيها شهيد حكم الإعدام في قضية كفر الشيخ، سامح عبدالله، يقطع خطواته الأخيرة نحو حبل المشنقة، تاركاً رسالته الختامية إلى العالم وإلى الله، وفيها:
“رسالة إلى أهل قريتي الكرام، ولكل من يعرفني في الداخل والخارج، أقول لكم لا تظنوا بي إلا خيراً فأنا والله العظيم بريء من هذا الدم، ولم أعرف أي شئ عن هذا الحادث. ولكن أنا راض بقضاء الله عز وجل. الحمد لله على كل حال، وبريء من أي دم، وأنا الآن في هذا المكان بين يدي الله، أشهد إليه عز وجل أني بريء من هذا الدم. سوف اقتصّ أمام ربي من كل من شارك في قتلي، ولو بشطر كلمة، أعان الظالم عليها، وحسبي الله ونعم الوكيل، وعند الله تجتمع الخصوم والمظالم”.
لكن ذلك كله لم يكن كافياً لثني المحتفلين عن مواصلة الرقص والغناء، أو حتى توقفهم قليلاً للتفكير في كارثة وطن، باتت فيه أخبار الإعدامات، وتصفية المعتقلين المخفيين قسراً، فقرة يومية ثابتة، مثل حالة الطقس وأسعار العملة ونتائج مباريات كرة القدم، ليسألوا أنفسهم: هل يمكن أن تبنى الأوطان فوق بحيرات من الدم؟ هل سألت المذيعة المبتهجة بالعام الجديد نفسها كم لتراً من دماء البشر يمكن أن تلون فستاناً واحداً بالأحمر الفاقع، ليليق بالمناسبة؟ ماذا قال القاضي الذي نطق بقرار نحر الضحايا لأبنائه وزوجته، بعد عودته إلى المنزل في ليلة التنفيذ؟
هل حدّثهم عن إنجازه الضخم بتحويل بلداتٍ بأكملها إلى مأتم كبير؟ هل طمأنهم على مستقبل الوطن، بعد إزهاق كل هذه الأرواح، وهو يتناول طعام العشاء؟ هل استمتع بالمذاق؟
أغلب الظن أن الإنجاز الأكبر في قضية إعدامات كفر الشيخ أنها ستدرّس لطلاب الحقوق على مستوى العالم نموذجاً لفساد التحرّيات وفساد الاستدلال وفساد النتائج، فيكفي أن تعلم أن تقرير الأدلة الجنائية أكد أن التفجير تم عن طريق تليفون محمول، خلافاً لما جاء في اعترافات المتهمين المنتزعة تحت أبشع أنواع التعذيب، لإكراههم على القول عن استخدام ريموت كنترول تبين عدم صلاحيته للعمل، وأن من بين المتهمين من كان معتقلاً في سجن طنطا العمومي على ذمة قضية اخرى قبل الحادث بشهر، وفقاً لتوثيق “هيومان رايتس مونيتور”، والتى حصلت من إدارة السجن على ما يفيد باعتقال المتهم قبل الحادث بشهر، ووجوده في السجن في أثناء الحادث.. وأن محامى المتهمين تقدم بالتماس للنائب العام بوجود متهمين فعليين للحادث، ووجود اعترافات مسجلة لهم، ولكن الالتماس تم رفضه.
في النهاية، كان مطلوباً حفلة إعدامات موسعة، ابتهاجاً بالعام الجديد، ليخرج بعدها المحاميان الإخوانيان السابقان ليقولا هل من مزيد! ويصرخا بأنه لا يزال هناك 450 ألفاً من الإخوان في مصر، يصلحون ذبائح على موائد القتل والطرب.. وليذهب بطريرك الأقباط سعيداً بكنيسة عاصمة عبد الفتاح السيسي الإدارية الجديدة، متحدّثاً عن المحبة والوئام.
لكن ماذا سيقول الذاهبون إلى الله عنا، وقد صار حزننا على ضياع ضربة جزاء في مسابقة الدوري العام، أكبر وأبقى من إهدار الدماء البريئة؟
أضف تعليقك