• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانيتين

مع وفرة المعلومات التي تجود بها علينا الأيام الأخيرة، ينبغي أن نسأل إن كانت تلك المعلومات تقدّم إضافة حقيقية أم لا، لا أن نسأل عن صحتها. حديثي تحديدا عن سلسلة التسريبات التي أعلنت عن بعضها صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، ثم بثّتها قناة مكملين المصرية المعارضة، تلك التسريبات التي يُحدّث فيها ضابط في المخابرات الحربية المصرية عددا من الإعلاميين والفنانين، ليقوموا بدورهم في تهيئة الرأي العام المصري لمواقف النظام القادمة المفرّطة في القدس، ولشنّ حملة تحطيم على الفريق أحمد شفيق في حال أصرّ على ترشّحه للرئاسة.

كذلك ذكرت نيويورك تايمز، أن المملكة العربية السعودية أرسلت إشارات للولايات المتحدة تفيد بأنّها ستصمت في حال أعلن دونالد ترامب عن القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، وأنها ستضغط على الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس للقبول ببلدة أبو ديس عاصمة بديلة عن القدس، وهو ما أكّده كذلك كتاب "النار والغضب" الذي صدر مؤخرا، وتحدّث عن تعهدات مصرية وسعودية بالضغط على الفلسطينيين؛ للقبول برؤية ترامب لحل القضية الفلسطينية، تلك الرؤية التي أشار إليها الكتاب أيضا.

ما الجديد إذن؟ أذكر أنني كتبت مقالة بعنوان "مقاربة ترامب العربية.. سيناريو محتمل"، وذلك بعد وصوله البيت الأبيض، وقيامه بأول اتصالاته العربية، توقعت في تلك المقالة أن يسعى ترامب لتشكيل تحالف شرق أوسطي يدمج فيه "إسرائيل" تحت عنوان التصدّي لإيران ومحاربة الإرهاب، والثمن سيدفع من القضية الفلسطينية، ثم أتبعتها بأخرى بعنوان "عن الصفقة الإقليمية الشاملة". ومنذ انقلاب عبد الفتاح السيسي، وأنا أكتب في السياق الإسرائيلي الذي جاء به، ولعلي كنت من القلّة الذين لم يتحمّسوا للعهد السعودي الجديد، وتوقّعوا ما ستكون عليه السياسات السعودية، وما تؤكّده هذه التسريبات.

وإن كانت هذه التسريبات لا تقدّم إضافة جوهرية إزاء ذلك، سوى أنّها تؤكّده، فإنّ ما كنت أكتبه لا ينمّ أبدا عن مهارة خاصّة في التوقّع والتحليل السياسي. لا أقول ذلك ادعاء للتواضع، ولكن لأن الأحداث كانت واضحة إلى الحدّ الذي لا يلزمه بذل الكثير من الجهد لفهمها وتحليليها، ولكن كان علينا أن نأخذ ظواهر الأمور بجديّة أكبر، ونتخلّى تماما عن أساطير الرصانة التي تصوّر البلاد العربية وأنظمتها على غير حقيقتها.

إن كان ثمّة فائدة من انقلاب عبد الفتاح السيسي، فهو كشفه عن رداءة النخبة المصرية، وهشاشة جهاز الدولة، بما في ذلك الأجهزة الأكثر خطورة وحساسية، كالجيش ومنظومة الاستخبارات، وعلى نحو لا يمكن أن يسمح بأي تحليل يتصور أن تلك الدولة وأجهزتها تتصرف عن كفاءة وتخطيط استراتيجي ووعي بالأمن القومي، وعليه كان ينبغي أخذ ظواهر تصرفات السيسي بجديّة بالغة.

من تلك الظواهر: لماذا تبنّت "إسرائيل" انقلاب السيسي بحماسة مفرطة، وكأنّه رجلها الذي تعبت في إعداده سنين طويلة؟ كان الأمر واضحا ومعلنا، ولا يمتّ بصلة للظنون أو نظرية المؤامرة. لماذا افتتح السيسي عهده بخنق قطاع غزّة وتدمير الأنفاق، ومحاولة تركيع شعبها وتحطيم مقاومته، واتخذ موقفا صريح الانحياز، وبلا تردد، لـ"إسرائيل في حربها على غزّة في العام 2014؟

لماذا هجّر رفح المصرية، وامتدت عمليات التهجير التي يقوم بها لمدن أخرى في شمال سيناء؟ لماذا فرّط في حقول الغاز في المتوسط؟ لماذا فرّط في مياه النيل؟ لماذا كان أوّل من تحدّث عن "صفقة القرن"؟ لماذا حاول الضغط على عبّاس في القمة العربية في البحر الميت لتبني مبادرة جديدة غير المبادرة العربية للسلام؟ لماذا تحدّث مع الكاتب المصري يوسف زيدان للمسّ بقداسة المسجد الأقصى في وعي المصريين؟ لماذا تحدّث الوزير الإسرائيلي أيوب قرّا عن مقترح للسيسي يقضي بمنح الفلسطينيين أجزاء من سيناء يقيمون عليها دولتهم؟

لست أرغب في إتمام هذه المقالة بالمزيد من الأسئلة، والتي كانت عفو الخاطر، دون جهد في استحضارها. لكنّي أردت القول منها إنه كان علينا فقط أن نسأل هذه الأسئلة بجديّة، وأن نأخذها كما هي، بلا تأويل، ودون أيّ محاولة لوضعها في قلب أسطورة عظمة الدولة المصرية وعبقرية أجهزتها ومنظومة الحكم فيها. باختصار، لا ينبغي أن نعرض الحقائق على الأساطير، إنما العكس هو الذي ينبغي!

قل الأمر نفسه في تحليل السلوك السعودي مع بدايات ظهور طموحات وليّ العهد محمد بن سلمان، وعلاقته الخاصة بوليّ عهد أبو ظبي، وقل الأمر نفسه مع ظهور العلاقة الخاصة التي ربطت ترامب وصهره ببنيامين نتنياهو، ثم علاقة هذا الصهر بالأسماء الأخرى المذكورة.

إنّ أيّ مطّلع على السياسات الإسرائيلية الاستعمارية في فلسطين المحتلة، وعارف بتوجهات اليمين الحاكم فيها، ومراقب لتحولات المجتمع والسياسة في "إسرائيل"، يمكنه أن يتوقع الرؤية الإسرائيلية العامة لتصفية القضية الفلسطينية. ومع التردّي والاهراء العربي، لا بدّ وأن تلتقي "إسرائيل" مع الأطراف العربية المذكورة في هذه المقالة، في سعي كلّ منها لاستثمار لحظة ترامب، وكلّ لأسبابه وأهدافه ودوافعه وسياقاته الخاصّة؛ التي سبق لي والكتابة في بعضها. بكلمة أخرى، شكّل ترامب قاسما مشتركا بين "إسرائيل" والأسماء العربية المذكورة في هذه المقالة.

الحاصل، أن فهم ما يجري لا يحتاج إلى الكثير من الأدوات والمعلومات، ولكنّه يحتاج إلى جهد خاصّ في التخلص من الأوهام التي تحول دون رؤية الأشياء كما هي!

أضف تعليقك