يخطئ من يعتقد أن الانتفاضة الحالية في إيران سوف تفضي إلى تغيير سياسي، أو أن تصبح ربيعاً جديداً يمكنه تغيير المعادلات السياسية، أو قلبها رأساً على عقب، بما قد يطيح عرش الملالي من السلطة. صحيح أن رقعة الاحتجاجات هي الأكبر منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، بما في ذلك ما حدث عام 2009، إلا أننا لسنا إزاء ثورة أو شبه ثورة، وإنما بالأساس حالة احتجاجية غاضبة ضد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها الجمهورية الإسلامية منذ سنوات.
وقد أفاض المحللون والمعلقون في شرح الانتفاضة الحالية، واختلفت التوقعات حسب المواقف والخلفيات السياسية لهؤلاء المراقبين. بيد أن ثمة دلالات عديدة تثيرها "انتفاضة الهوامش" الحالية سوف تكون لها تداعياتها على مستقبل الجمهورية الإيرانية، لعل أولها أننا إزاء حالة انكشاف سياسي وشعبي غير مسبوقة لشرعية الجمهورية الإيرانية التي ظلت تتعاطى مع الشرعية الشعبية، باعتبارها أمراً مضموناً ومفروغاً منه. فمن قام بالانتفاضة الحالية ليست النخبة الإصلاحية الرافضة هيمنة المحافظين وأجهزتهم، كالحرس الثوري الإيراني، وليست جماعة المثقفين والنخب التي تطالب بمزيد من الانفتاح والحريات، وإنما طبقات عادية ومواطنون غير متحزبين سياسياً، وليس لديهم قيادة تحركهم، وإنما كانت تحركاتهم عفوية إلى حد بعيد، وربما أن هذا هو سبب هدوء الانتفاضة أو خفوتها بشكل سريع. ثانيها أن هذه الطبقات كان تمثل دوماً المخزون الرئيسي للجمهورية الإسلامية، خصوصاً فيما يتعلق بعمليات التعبئة والحشد الأيديولوجيين، والتي كان يتم استدعاؤها في المحكّات الرئيسية، خصوصاً في مواجهة الغرب.
لذا فإن غضب هذه الطبقات يؤشر إلى تراجع جاذبية الأيديولوجيا الإسلامية، أو بالأحرى الخمينية، في الأوساط الشعبية. وثالثها أن الانتفاضة تكشف مستوى الشيخوخة التي وصلت إليها الدولة الإيرانية، وأنها تعكس حالة من الرفض الشعبي لسياسات الدولة ونظام الحكم، وعدم قناعتها بقدرة هذا النظام على تحسين أوضاعهم المعيشية، خصوصاً بعد الوعود الكبيرة التي قطعها الرئيس حسن روحاني على نفسه في أثناء حملته الانتخابية التي جاءت به إلى السلطة، خصوصاً في ظل التوقعات الكبيرة التي صاحبت الاتفاق النووي الإيراني، والتي لم يتحقق منها شيء. ورابعها أن الجمهورية الإيرانية لم تعد خارج الناموس الطبيعي للسياسة، وبإمكان قطاعات شعبية عادية أن تهز عرش المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، مثلما حدث في الانتفاضة أخيراً، والتي يبدو أنها أثارت خوفاً على خامنئي، إلى الدرجة التي جعلته يتحدث مرات، ويحاول تشتيت الأنظار عن الانتفاضة باتهام أطراف خارجية بالوقوف وراءها، تماماً مثلما فعلت الأنظمة السلطوية في أثناء الربيع العربي.
بكلمات أخرى، "انتفاضة الهوامش" الحالية في إيران هي بمثابة جرس إنذار مبكر بأن الجمهورية الإسلامية وصلت إلى مرحلة الشيخوخة، وأن العقد الاجتماعي الذي قامت عليه منذ الثورة أواخر السبعينيات، والذي كان يستثمر بشكل كبير في البعد العقائدي والايديولوجي للثورة، لم يعد يصلح الآن. بيد أن مشكلة الانتفاضات التي تجري في ظل أنظمة مغلقة إيديولوجياً، ولديها جيش عقائدي كالتي نشهدها في إيران حالياً، أنها لا تفضي، في أغلب الأحوال، إلى تغيير سلمي، أو تنازل من هذه الأنظمة التي تستخدم كل أشكال القمع، لوأد هذه الانتفاضات في بداياتها، وذلك قبل أن تتحول إلى ثورة شعبية. وإذا ما قاوم المحتجون القمع في مراحله الأولى، فربما تنزلق البلاد نحو مواجهةٍ مسلحة مع قوات الأمن، وبما تنحدر باتجاه حرب أهلية. لذا، من غير المتوقع أن تفضي الانتفاضة الحالية في إيران إلى ربيعٍ جديد، يمكّنها من تغيير الأوضاع السياسية في البلاد، وذلك على عكس ما يأمل بعضهم.
أضف تعليقك