سوق "عُكاظ" كانت أبرز أسواق العرب في الجاهلية، تعدّدت الأقوال في سبب التسمية، منها ما جاء في "لسان العرب" بأنها سميت عُكاظًا لأن العرب كانت تجتمع فيها فيَعْكِظ (أي: يَدْعَكُ) بعضُهم بعضاً بالمُفاخَرة، فكانت عُكاظ رغم كونها محفلا أدبيا وتجاريا، إلا أنه قد سادَتْها مظاهر المُفاخرة والمُنافرة بين الناس، والتي ربما قامت بسببها الحروب.
في سوق عُكاظ الإعلامية المعاصرة، يُدرك البصير مَسْعى التأجيج وسكْب الزيت على النار، وآخر ما طالعْتُهُ على صفحاتها كان تقريرًا مُطوّلًا بعنوان "سرقة التاريخ تخصّصٌ تركي"، ردًا على الموقف التركي الغاضب إزاء اتِّهام وزير الخارجية الإماراتي لفخري باشا الوالي التركي على المدينة بسرقةِ تُراثها، ويبدو في التقرير أن مُعدِّيه قد بذلوا جهدًا مُضْنيًا في إعداده، لمحاولة إثبات تهمة اللصوصية بحقّ تركيا في السطْو على تُراث المدينة.
يتصدر التقرير إنفوجرافيك جميل، يتضمن بيانًا لحجم المنقولات المقدسة التي نقلت من المدينة إلى إسطنبول، وكأن الصحيفة تريد من خلال ذلك الشكل الجمالي إيهام البعض بأنه وثيقة تثبت تهمة السرقة بحق الأتراك.
ثم بدأ العرض التاريخي لنفائس الهدايا من الأحجار الكريمة والقناديل والمَباخِر والستائر والجواهر ونحوها، والتي أهداها الملوك والأمراء والوجهاء إلى الحجرة النبوية، وحرص التقرير على الإسهاب في جمع ما تناثر من الأقوال في كتب المؤرخين في حصره المنقولات ولو كانت أعدادها متناقضة، وكأن التقرير يسعى لأن يصُبّ مبكرًا في ذهن القارئ - الذي لا صبر له على طول القراءة أو الذي يفتقر إلى التركيز في قراءاته - أن جميع هذه المنقولات تعرّضت للنهب من قِبل الدولة العثمانية.
يُلاحظ على تقرير صحيفة عكاظ، أنه يتكلم عن وثائق ومحاضر رسمية عديدة تتعلق بنقل تلك الأمانات من المدينة إلى إسطنبول، دون أن يعرض سوى صورة واحدة لوثيقة باللغة العثمانية عبارة عن بضعة أسطر قليلة عن المنقولات، فهو لم يعتمد البحث المباشر في المخطوطات والوثائق، بل اعتمد على دراسة أجراها الباحث سهيل صابان بحسب التقرير.
الدقة في الإجراءات التي اتخذتها الدولة العثمانية تجاه المنقولات – التي أقرّت صحيفة عكاظ بأنها قد نقلت للحماية والعناية بها وإصلاحها – تتعارض مع الاتهام المُوجَّه للدولة العثمانية بأنها سرقت تُراث المدينة، ويؤكد في الوقت نفسه ما رد به الأتراك على التهمة من أن نقل هذه القطع والآثار كان لحمايتها إبان العدوان البريطاني، حيث نرى في التقرير أن جرْد محتويات الحجرة النبوية الذي تم عام 1908 كان بناء على طلب من السلطان العثماني، ومُوجَّه إلى الصدر الأعظم في الباب العالي، وأنه قد تم على إثره تكليف لجنة مكونة من 10 مسؤولين في الحرم النبوي وعلى رأسهم "محمد راسم" أمين خزانة الحرم النبوي، وسبعة من بوابي الحجرة، ونقيب أغوات الحرم، ومُستلِم الحرم النبوي المسؤول عن تسجيل واستلام الهدايا، وقامت اللجنة بجدولة الأصناف وتقدير قيمتها، وتعيين جهة الإهداء، ثم قُدِّم التقرير إلى مشيخة الحرم النبوي التي رفعته إلى نظارة الأوقاف العثمانية، ومنها إلى الصدر الأعظم لإطلاع السلطان عليه.
فاتباع كل هذه الإجراءات على هذا النحو من الدقة، ربما يعزز فكرة أن الهدف منه كان حماية تلك المقتنيات من الغزاة، وليس بغرض السرقة كما ذهب البعض.
ومن مظاهر التعنُّت ضد الأتراك التي ظهرت في التقرير لإثبات تهمة السرقة والنهب بحق الدولة العثمانية، أنه قد تعَمُّد التلبيس على الناس من جهة اللغة، فذكر تقرير عكاظ أن جدول المقتنيات الذي أعده العثمانيون كان مجموعُهُ 391 صِنفًا، بينما الصحيح أن مجموع القطع يصل إلى 2320 قطعة، هكذا تقول الصحيفة.
وقطعًا هذا من التدليس، لأن كلمة صِنف مِن صنّف الشيء تصنيفا، أي جعله أصنافا وميَّز بعضها عن بعض كما جاء في تاج العروس للزبيدي، فالصِنف يدخل تحته أشياء لها صفات مشتركة مُرتَّبة بحسب علاقتها.
ومن هنا نرى أن التقرير تعمّد التدليس للبرهنة على وجود مغالطات عثمانية في جداول نقل النفائس المتعلقة بالمسجد النبوي.
المسألة الأهم في ذلك الموضوع، أن التقرير يُثير لدينا عدة تساؤلات جوهرية، تُبيّن الإجابة عليها مدى ارتباط التقرير بالمناخ السياسي:
هل كان مُحتوى التقرير مجهولا للحكومة السعودية ثم برزت تلك المعلومات فجأة من العدم؟
الصحيفة تُقرّ بأن نقل المُقتنيات كان على سبيل الأمانة وأن على تركيا إعادتها، فلماذا لم تُطالب الحكومات السعودية المتعاقبة تركيا رسميا بردِّ تلك المقتنيات؟ هل يُفهم من ذلك أنها متواطئة؟ أم مُفرّطة؟ أم جَبُنتْ عن المطالبة بها؟!
لماذا تزامن التقرير مع فُتور العلاقات بين تركيا والسعودية على خلفية موقف إسطنبول الرافض لحصار قطر؟
الصحيفة السعودية بَنَتْ تقريرها على تصريحات وزير الخارجية الإماراتي وردّ الفعل التركي، فما مصلحة الإعلام السعودي من إثارة نبرة العداوة مع الأتراك في وقت تحتاج فيه القضية الفلسطينة خاصّة إلى التخَلّي عن الشِقاق وتعدُّد المُعسكرات؟
هل كانت مُصادفة أن تُوجّه هذه الحملات الخليجية إلى الأتراك في وقت تأزَّمتْ فيه العلاقات بين إسطنبول وواشنطن، وتسعى الأخيرة في تقليم أظافر تركيا؟
العالم الإسلامي يمُر بأخطر مراحله، وكل ثوْرٍ يعرف أنه مأكولٌ غدا، والقوم مشغولون باللحظة الآنِيِّة والنظر تحت الأقدام، العدو ظاهر، والصديق بائن، ولكنها حماقة الاختيار، وغباء التوقيت..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أضف تعليقك