• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: مهنا الحبيل

حجم الغبن الذي يجتاح صدور ذوي غائب مظلوم سجين أمرٌ طبيعي مستحق، لكنه في حالة الظواهر العالمية الفكرية أشد قهراً، خاصةً حين تكون هذه الظاهرة شخصية وُلدت في توقيت العالم الجديد، وأسئلة الحيرة والظلم الواسع الذي تختنق به الكرة الأرضية، ويكون العالم الجنوبي كالعادة هو الضحية، منذ صعود النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.

ويزيد الألم حين تكون هذه الضحية منبر روح وعقل وتفاؤل وإشراق إنساني، وجسرا ينشر مفهوم التضامن الإنساني باسم الإسلام، وموازين العدالة بين الشعوب الإنسانية، فتعيد تجديد معنى الإسلام كمهمة تاريخية.

كما تعيد جدولة الخطاب الروحي الذي جاء به الوحي كدين حياة، ومهمة عمران للأرض، وفهم رقيق ورفيق بالنفس الإنسانية عموماً، وبالمسلمين المعذبين في الأرض، وبالأبرياء من كل دين والمدنيين من كل ملة، فيهدى إليه بصدق الرأي وطيب القول.

"ما جرى من اعتقالات واسعة في المملكة كان متوافقا ومتطابقاً مع جولة العلاقات الجديدة لليمين العنصري المتطرف المتمثل في رئاسة دونالد ترمب الأميركية. إنها مفارقة كبرى؛ ففي الوقت الذي تبحث فيه الإنسانية سبل العدالة والسلام الاجتماعي، تُعتقل أبرز شخصية ذات حضور ومكانة في بعث هذه القيم العادلة بين المسلمين وبينهم وبين شركاء رحلة الأرض"


ويشير له بابتسامة فأل متجددة، قد أحاطت بمعنى الإسلام وكنز من أسراره، وفتح عليها فيه، فاصطف الملايين -ومن خلفهم عشرات الملايين- من المسلمين ليعيدوا فهم الحقيقة ووعي الجواب: ها أنذا الإنسان الذي تؤمن روحه بخالقها، وينهض جسده بعمران خليقته، ويحرث هذه الأرض لسعادة البشرية. كان ذلك أساسا رئيسيا لفلسفة الغائب الحاضر الشيخ سلمان العودة.

وهنا حين نعرج على مظالم العالم الجنوبي، ونقرنها بالموقف الدولي الأميركي مما قامت به السلطات السعودية من عمل فادح ضد الحريات، وحق الشعوب والأمم والأسرة الإنسانية في السماع والأخذ والفهم لفلسفة التجديد الإسلامي لنجاة الإنسان، ونجاح تعامله مع الآخرين أياً كان أولئك الآخرون، ما دامت القاعدة هي السلم الاجتماعي وتنظيم معارف الدعوة القرآنية ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

فنحن ندرك تماماً أن ما جرى من اعتقالات واسعة في المملكة كان متوافقا ومتطابقاً مع جولة العلاقات الجديدة لليمين العنصري المتطرف المتمثل في رئاسة دونالد ترمب الأميركية، ومع الدولة السعودية وعهدها الجديد. إنها مفارقة كبرى؛ ففي الوقت الذي تبحث فيه الإنسانية سبل العدالة والسلام الاجتماعي، تُعتقل أبرز شخصية ذات حضور ومكانة في بعث هذه القيم العادلة بين المسلمين، وبينهم وبين شركاء رحلة الأرض.

ولذلك فإن الأنباء المقلقة عن صحة الشيخ سلمان العودة في سجنه المعزول وتغييب أي خبر عنه، وتناقل المسيئين إليه منشورات مروعة عن صحته والتبشير بوفاته، هو حدث عالمي مخيف. ويُفترض أن تتحد فيها كل مشاعر النبل والعدالة لإنقاذ هذه الشخصية العالمية، التي نرجو أن تتجاوز وضعها الصحي الحرج الذي وصل خبره إلى العائلة عبر شخصية اطلعت على وضع الشيخ.

لقد تنقّل الشيخ العودة عبر أطوار مختلفة كما هي رحلة المفكرين، وبلغ منتهى ما يصبو إليه من رحلة فكر عالمية للتبشير بخطاب السلام الإسلامي للنفس والروح، وتباشير الإحسان الإلهي لها لتُملأ روحاً وحيوية، وكان الناس -عبر برامجه وكتبه وصفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي- يحتشدون في كل لحظة لتستمع أرواحهم وتتنور عقولهم بشربة فكر، وجرعة رأي، بيدٍ تترفق بهم، وبأسئلة الإنسان المتعب في هذه الحياة.

لقد اختار الشيخ العودة لختام رحلته أن تكون منبراً للحرية وكرامة الفرد، وأدرك حجم ما تعرّض له خطاب الدين الإسلامي الحنيف من تشويه، بل إن هذا الزمن تحوّل -في بعض مساراته- ليكون النظام السياسي حاضناً لدينٍ مصنوع، برعاية مستبدّ وشراكة مغالٍ مدني أو مسلح، ففتن الناس وتاهت عقولهم.

فقرر الشيخ أن يُفرغ حياته لمهمة البلاغ الاجتماعي العالمي للإسلام، ذلك ما كان يدور حوله في حديثه معي؛ لقد آمن الشيخ العودة إيماناً كاملاً بمفهوم الحقوق الدستورية للشعوب، والعدالة الاجتماعية، وأنها من صلب مفاهيم العدل الإسلامي، وأيدها في بلده وفي الوطن العربي، وأصر على ألّا يتراجع عن هذه الحريات، وإن انشغل بخطابه التربوي وركز عليه.

وقبل ذلك؛ كان الشيخ يجمع مناطق وطنه: ألستنهم المختلفة وألوانهم وأعراقهم وأفكارهم المتعددة، حتى إن بعض من توحش فكره ولم يرق له منهج الشيخ ظل يعتقد أن العودة يجيب على أسئلة الجموع الحائرة، والتي لا تجد في أسواق الوعاظ المرتزقة دواءً، وتصدم كل حين بالبغي على الإسلام وتوظيف مسماه ضد رسالة الله والأنبياء، فيتناقص التطرف عنده حتى ينضم لكوكب الشيخ العودة.

وكان صوت الشيخ سلمان سوط كرامة مهذبا، يواجه خطاب الكراهية ضد الحق الإنساني والفردي في الاختلاف، ومن يملأ الدنيا ضجيجاً ضد مساحة حق المسلم في الحياة المدنية التي هي من فطرة الله للخلق، ليعيشوا بمتعة وسلام، والله مولاهم هو من يحاسبهم، وليس لأحدٍ حق أن يمنعهم ما فسح الله لهم في أرضه، مع اختلاف مذاهبهم وعاداتهم.

ولسنا نقول إن هذا الخطاب كان محصوراً في الشيخ العودة، بل هناك شركاء نهضة فكرية قبلُ وبعدُ، لكن الشيخ سهّل هذه المفاهيم لكل إنسان مثقف أو بسيط يريد الوعي، وألقاها إليه في مدرجة الحياة ليصبح على تويتر أو سناب شات بطلعة الأمل الجديد.

فيبتسم مع الشيخ في روحه الفرحة، ويتفاءل مع حفزه الدائم لصناعة الحياة، ويتعمّق فكره في فهم الإحسان بين الناس وبين أنفسهم، فترتاح نفسه في المشرق والمغرب العربي وفي المهجر، وهو مع ذلك يقوم بمهمة مواءمة وطنية، لكن بلغة لا تخضع للابتزاز ولا للمشارطة القمعية، فتربط روحه العذبة بين أقاليم البلاد السعودية المختلفة.

ولإيمان الشيخ بأن خطاب الروح الاجتماعي بات ضرورة في ظل التصحر الديني والاستبداد السياسي، والتيه الذي يتخطف الشباب بين الغلو المسلح والإلحاد المستفز لهم ولمجتمعاتهم، والتوظيفات العديدة داخليا وخارجيا، وحاجة أرواح الشباب لأن يُسمع لهم ليبوحوا بخواطرهم، ويدركوا في نهاية الأمر أن هذه الحياة مهما بعدت وحملت من مشقة، فإن رعاية الله ولطفه وحبه وإحسانه هي رافعة لهم، قبل دار الجزاء التي يُبسط فيها الحساب مقرونا بالرحمة الكبرى.

وبالتالي أمام صلف العيش وجدل الفوضى الفكرية، والضغط الشرس على الحقوق الفردية والدستورية الذي انتشر في الوطن العربي؛ احتاج الناس إلى مهمة ورسالة الشيخ العودة، لأبناء اللسان العربي ولكن عبر دعوة عالمية.

فكان يتمنى أن يوقف حياته لها، ولذلك قرر -منذ مدة- التفرغ لهذه المهمة التي تحتاج أن يستقل عن ميادين العمل السياسي كلياً، دون أن يهدم شخصيته بأن يكون مبتذلا للاستبداد، أو أن ينطلق لسانه لتزكية أي مشروع أو قانون أو سلوك ضد الحريات.

ومع ذلك لم يسلم الشيخ، فشعبيته الكبرى لا تقارن بمسار الاصطفاف عند الخطابات الوعظية الموظفة، وإن بقيت لدى هذه الخطابات مساحة تحتاجها الروح المسلمة، لكن سلمان العودة كان الله يهدي به الروح والعقل، ويترفق بصدق مع كل إنسان، فينتقي كلماته وأحاديثه بعزيمة مخلصة، وبأحرف يبعثها للناس كل الناس.

ولا يعني ذلك سلامة الشيخ من الخطأ أو الاجتهاد غير الموفق في حياته الفكرية، ولكنه كان يصحح بكل تواضع، ويقترب من الله ومن الناس، وتهتف زوايا دعوته الاجتماعية بمعاني الحرية المختلفة، من قرار الإنسان الذاتي وحتى حقه الأصيل في العهد السياسي.


إننا اليوم نقف أمام حملات تشويه الشيخ العودة عبر مفارقة مهمة؛ فالحملة التي بدأت منذ زمن وكانت تسعّر قبل اعتقاله الأخير في مواسم متعددة، يُستخدم فيها تيار يزعم ليبراليته وهو رديف كلي للاستبداد السياسي المحلي، وللمشروع الأميركي المناهض لحرية الشرق واستقلاله، كما يوظف تيار الجامية الذي نال من الشيخ العودة بكل عدوانية وقبح.

وباسم الأمن السياسي المزعوم؛ أوذي الشيخ كثيراً، وساند العصابةَ الجاميةَ تيارٌ آخر استخدم التحفيز السلفي لمحاصرة الشيخ العودة والطعن فيه، فهم جميعاً اتحدوا مع القرار السياسي المحلي والخارجي، لقمع خطاب الإنسان الإسلامي الذي بشر به الشيخ العودة.

إن المنبر الذي يسعى لحمل ذاته وخطابه -بعيداً عن التوظيفات ومداهنة الاستبداد- لم يزل يخطط له ويتعقب، ورغم أن الشيخ سلمان ابتعد عن معارك جدلهم فإنه كان خطة لهدفهم المتطرف؛ فأن يستقل الخطاب الإسلامي باسم العدالة الاجتماعية وحقوق الروح الإنسانية، فذلك خطر حسب ما يظن هؤلاء على مشروعهم وشراكتهم مع الغرب المتطرف.

أما البغاة المتطرفون باسم الدين وباسم محاربته أحياناً؛ فإن من السهل اختراقهم، وتجيير ثقافتهم المنحازة المتشددة لصالح المشروع السياسي، ولذلك استُهدف العودة لعلامته الفارقة.

إننا نبعث رسالة اليوم إلى أصحاب القرار السعودي بأن يدركوا حجم ما يعنيه استشهاد الشيخ سلمان العودة -لا سمح الله- في محبسه، وحجم القهر الذي يشعره الناس في ظل تغييب أي خبر أو تأكيد أي رعاية طبية مأمونة له، وهنا توجد مساحات افتراق كبرى بين خطاب العدالة والروح الإسلامية وبين موقف السلطات.

لكننا نعيد الدعوة إلى إطلاق الشيخ الذي قرر أن يخاطب شباب أمته والعالم بخطاب البلاغ الجديد، لنشر العدل بين العالمين الذي هو مهمة ندب إليها الرسول الأمين لكل جيل، ونطالب بأن يُسارَع أصحاب القرار إلى الإفراج عن الشيخ، وأن يُمنح عناية طبية خاصة ترتضيها أسرته، قبل أن يفوت أي زمن للتصحيح ويُعلَن فيهم قولُ التاريخ المبين.

أضف تعليقك