لم يكن غضبا إنما بركان غضب.. الشوارع المؤدية من أقصى القاهرة من أي اتجاه إلى وسطها تتكدس بآلاف الغاضبين.. فمنذ 25 يناير يبدو أن الكائنات الفضائية التي ظهرت أمام نقابة الصحفيين بأعداد ضئيلة تكاثرت حتى ملآت شوارع القاهرة.. والأنباء تتوالى عن كائنات أخرى تغزو ميادين المحافظات في كل أنحاء البلد..
اليوم بدأ لكنه لم ينتهِ.. رغم إن الشمس مالت للمغيب.. لكن شمسا أخرى كانت تستعد للصعود.. شمس غيبها الطغاة منذ عشرات السنين.. شمس غنى لها شباب مصر برومانسية العشاق.. شمس الحرية.
لم ينته اليوم حتى فرت الشرطة التي كانت تسوم الشعب سوء العذاب بكل زخيرتها أمام الكائنات الجديدة والذين سيحملون من الآن فصاعدا اسم الثوّار..
في لقطة سريالية عبرتُ عند تقاطع شارع عدلي بشارع محمد فريد على عشرات من رجال الشرطة المنهكين جالسين وظهورهم للحائط وبعض الشباب المنهك أيضا من المواجهة معهم يقدم لهم الماء.. ثم استدرت لليمين لأصل إلى شارع 23 يوليو لأطالع لوحة أشد سريالية.. ففي الناحية القريبة مني عشرات الشباب الذي خلع سترته ليربطها على رأسه يحمي بها عينه من الغاز المسيل للدموع بينما يوجه زخات حجارته على الواقفين بالطرف الآخر من الشارع.. كان الشباب يختفي ويظهر وفقا لمقتضيات الاحتماء من الرصاص المطاط والخرطوش والغاز الخانق.
الطرف الآخر لم يكن سوى تقاطع شارع 23 يوليو مع شارع رمسيس.. حيث يتدرس رجال الشرطة صفوفا خلف مدرعاتهم التي تُطلق الغاز وسيارتي مطافي توجه مدافع مائها لأي شئ يتحرك في جانب الثوار..
كانت الساعة قد شارفت على الرابعة والنصف عصرا، بعد نصف ساعة تحول المشهد ليرسم لوحة مختلفة، فصفوف الشرطة تلاشت كأنها كانت رسوما بالرصاص مسحتها أنامل الثوار، بينما أن سيارات المطافي تحولت لمصادر للاغتسال من أثر المعركة..
بعد نصف ساعة أخرى، أعلن الجيش أنه قادم للميادين..
لم تكن لا مفاجأة ولا سببا للخوف.. كان الثوار قد استمدوا من اليوم عزما غير مسبوق وشجاعة لم تستطع أن تكسرها مناظر الدبابات في الشوارع ولا إعلان منع التجول ببيان عسكري من المجلس الأعلى للقوات المسلحة ابتداء من السادسة مساء جمعة الغضب..
على العكس انتشرت صور مطاردات الثوار لمدرعات الحرس الجمهوري عندما حاولت الانتشار بميدان عبدالمنعم رياض وأمام ماسبيروا حيث مقر التلفزيون الحكومي ؛ فكانت إشارة إلى أن الثوار أصبحوا القوة الأولى في البلاد..
تجمعوا في نهاية اليوم في ميدان التحرير.. حيارى لا يدرون ما هي الخطوة التالية.. هتافات ونداءات واقتراحات.. انتهى الجدل إلى قرار اعتصام.. وبسرعة البرق جمع البعض تبرعات من الثوار واشترى ميكروفونا ليقيم إذاعة الثورة في ميدان الثورة .. فأصبح للثورة صوت..
في الصباح استيقظ من عاد إلى بيته ليستطلع الأخبار.. فاكتشف أن إخوانه قضوا ليلتهم في الميدان.. ارتدى ملابسه وتأبط حذاءه وانطلق لساحة الشرف.. لم يكن لخطاب مبارك أي قيمة ولا يستحق أن نذكره كجزء من أحداث اليوم الأول.. فقط قصص البطولات هي التي نسجت اليوم الأول وصنعت أحداثه بينما تصريحات أركان الدولة لم تكن إلا أصواتا مودعة رغم إن كبرها منعها من إدراك مشهد رحيلها..
شهد ميدان التحرير معركة إرادات بين القديم والحديث.. ولم يشك هؤلاء الثوار في هذا الميدان العبقري من أنهم سينتصرون في النهاية.. لا أذكر كلمة يمكن.. أو شعورا بالتردد أو خوفا من الغد.. كان قرارا اتخذه كل ثوري بأن يحسم المعركة لصالح مطالب الشعب التي بدأت في التبلور.. وانتقلت من العيش إلى الحرية.. ومن الحرية إلى العدالة الاجتماعية.. ثم وضعت كل ذلك في إطار ذهبي وطوق إنساني.. الكرامة الإنسانية..
ألم أقل لكم إنها ثورة عبقرية.. وأنهم كائنات لم تمس أرض المحروسة مثل أقدامهم منذ عشرات.. لا بل مئات السنين!!
استمر فجر الثورة مضيئا بريئا يخطف الأبصار والقلوب مدة ثمانية عشر يوما متصلة كأنها ساعة من نهار.. منحت النموذج الذي يرغب فيه الشعب ويأمل فيه كل مصري.. مجتمع حُر.. مختلف لكنه متسامح.. متنوع لكنه واحد.. يحمل في قلبه وطن.. كل الوطن.. لا يميّز ولا يكابر ولا يصادر رأيا ولا يحتقر فكرة..
لم أنس صورة "البلاص" يحمله مواطن من الصعيد مكتوبا عليه "ارحل".. ولا يملّ من التطواف به في الميدان.. ينتظر أن يرحل الطاغية ليكسره خلفه..!!
وفي الطريق أثناء التطواف بالميدان ترى قداسا بالشموع تحميه جلابيب بيضاء بلحاها.. بينما ساجدين للصلاة يمنع المرور أمامهم فتيات وفتيان على يدهم الصليب وبينهم قسيس سيهتف لاحقا بسقوط الطاغية..
شخص مرموق في جماعة الإخوان يمر ومعه عشرات يرفعون فقط علم مصر.. تعرفه فقط من صوره في الجرائد بمناسبات اعتقاله عدة مرات أيام مبارك..
صحفي مشهور يقف بين شباب يتعلم منهم كيف يُصنع الحدث.. ويقص عليهم ما يعرفه عن ثورة 19.. استاذ جامعة في السابعين من عمره يمر بين صفوف الثوار ليشحذ همتهم ويحكي لهم عما يعلمه عن الثورة الفرنسية..
أحلام وردية تراها منثورة على جباه الكل.. وعزيمة فولازية تقرؤها في عيون الجميع..
أضف تعليقك