بقلم الكاتب التونسي: محمد هنيد
مثلت التحركات السياسية الخارجية لدولة الإمارات مؤخرا مظهرا لافتا، يسمح باستقراء مشهد شديد الخصوصية في تعامل السياسة الخارجية العربية الرسمية مع القضايا الإقليمية، وفي صياغتها لواقع الفوضى الذي نعيشه.
المشهد ليس جديدا لكن تشكّله بهذه الصورة وخروجه إلى السطح بهذا الوضوح هو الجديد، خاصة بالنسبة للمتابع القاعدي ونقصد به عموم الجماهير العربية. وتندرج هذه المقاربة في إطار الكشف الكبير الذي حققه الربيع العربي للوعي الناشئ، بمعنى أنها لا تنفصل عن الغطاء الذي رُفع بسبب رياح الربيع العظيم، وبسبب ضريبة الدم الباهظة التي دفعتها شعوب هذه الأمة ولا تزال.
وهو ينخرط كذلك في سياق السعي إلى توضيح مكونات المشهد وتحديد دور مختلف الفاعلين داخله، بشكل يسمح بفهم طبيعة تطور الأحداث وتبيّن المآلات التي تذهب إليها. إن خروج الدولة العميقة وأذرعها من العمق إلى السطح -في مصر وتونس وليبيا وسوريا وفي الخليج العربي- هو إعلان عن بداية مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة العربية.
إنه فعلٌ يُنبئ بنهاية الدولة العميقة وحكومات الظل التي حكمت المنطقة خلال عقود بالشكل الذي نعرفه، لأنها اخترقت شرطا أساسيا من شروط وجودها وانتصارها، وهو البقاء في العمق والفعلُ بالوكالة ومن وراء الستار.
مشهد حصاد الربيع
أفرز الربيع العربي -بشكل عام- واجهتين أساسيتين متقابلتين، وهما واجهة الثورة ومن يقف في صفها، وواجهة الثورة المضادة ومن يدعمها. هذا التوزيع لا يختزل المشهد كاملا لكنه يحدد طبيعة الفاعلين الأساسيين في مجال الفعل الثوري، وما خلّفه منذ الانفجار التونسي أواخر 2010.
لقد دعمت دولة الإمارات باكرا قوى الثورة المضادة ممثلة أساسا في الأذرع المالية والأمنية والعسكرية والسياسية للأنظمة التي ضربتها أمواج الثورات، حيث آوت مبكرا عددا هائلا من القيادات التابعة للنظام القديم بدول الربيع، وشكلت بسرعة غرف عمليات معقّدة لإجهاض الثورات وضرب المسارات الانتقالية وإعادة المنظومات القديمة إلى سدة الحكم.
نجحت هذه الغرف في إجهاض أمّ النماذج الثورية متمثلة في الثورة المصرية، عندما دعمت أبو ظبي -وكذلك السعودية- تدمير أول نموذج للحكم المدني الديمقراطي في مصر، بسجن الرئيس المنتخب محمد مرسي، وإحلال الحاكم العسكري الانقلابي مكانه، وسط بُركة كبيرة من دماء المصريين وأشلائهم المحترقة في شوارع القاهرة وساحاتها.
وعملت غرف الثورة المضادة أيضا على إنهاك المسارات الثورية الأخرى في ليبيا، حيث مثّل الدعم الإماراتي للجنرال الانقلابي خيارا مضادا يمنع الثورة الليبية من بلوغ منتهاها، وصناعة مسار انتقالي مدني يخلو من مغامرات العسكر ومن حلم بعث القذافي من جديد.
المشهد لم يقتصر على دعم التجارب الانقلابية، بل تجاوزها إلى ضرب خطوط إمداد الثورات سواء ماديا أو إعلاميا أو سياسيا. وهذا الخيار -الذي يمثل جزءا مركزيا في عقل الثورة المضادة- هو الذي يفسر حرب الانقلابات على الأنظمة والقوى الداعمة للثورات، سواء خليجيا عبر حصار قطر والعمل على تغيير نظام الحكم فيها بالتآمر العلني، أو عبر العداء الصريح لدولة تركيا.
فما يجمع قطر وتركيا هو رفضهما الانخراط في منظومة الدول الراعية والداعمة للانقلاب على التجارب الثورية وتدميرها، وهو ما يفسر وقوع هذه الدول تحت دائرة التهديد الانقلابي الذي فشل في تركيا أولا، ثم سقط وتبخر في قطر.
هذا دون ذكر غيرها من المغامرات الانقلابية الفاشلة، والدعم المادي السخي لمجموعات التأثير الإعلامي الدولية لشيطنة قطر وتركيا وربطهما بالإرهاب.
تصدر الجهود الانقلابية
لا يختلف اثنان تقريبا اليوم في أنّ أكبر مكاسب الربيع هو الكشف الجلي الذي حققه للوعي العربي بشكل فاق كل حدود الانتظار والتوقع. فمن كان يتصور قبل ثورات الربيع أن تكون طبيعة الوضع العربي كما هي اليوم؟ ومن كان يتصور حجم توحش النظام الاستبدادي العربي كما ظهر في سوريا؟
ومن كان يتخيل أن تخريب الأمة يتم من الداخل لا من الخارج أساسا؟ ومن كان يتوقع في أسوأ كوابيسه أن تكون الأنظمة العربية هي الأداة الأساسية في تخريب أحلام الشعوب وفي قتل طموحاتها ولو كلفها ذلك ملايين الضحايا والمهجّرين واللاجئين؟
ليس نظام الإمارات هنا غير النموذج الأشد نتوءا وبروزا في المشهد، بسبب تعنتها في لعب دور الريادة ضمن فريق الثورات المضادة، والسعي المحموم إلى الإطاحة الدامية بتجارب الثورات العربية السلمية.
لم ينكشف هذا الدور في أحداث الربيع العربي -بشكل كامل- إلا مؤخرا وخاصة بعد حصار قطر، وليست الأحداث الأخيرة التي صدرت من دولة الإمارات إلا مؤشرا جليا على وصول قدرات الفعل الثوري المضاد إلى أقصى مداه التخريبي الممكن.
المشهد ليس جديدا؛ لأن انخراط الإمارات في منظومة الثورة المضادة وحملها لواء الانقلابات على المنجَز الثوري للشعوب العربية، إنما يعود إلى فجر اندلاع هذه الثورات أي باكرا سنة 2011، بل قبل ذلك بكثير عندما دعمت ماليا كل المنظومات الاستبدادية العربية، مستفيدة من الطفرة المادية التي حدثت لها.
لقد مثّلت ثورات الربيع فرصة تاريخية لإصلاح البناء السياسي العربي عبر مراجعته، فكانت إشارة إلى نهاية النسق الاستبدادي القديم، ودعوة إلى ضرورة ترميم هيكل الحكم في البلدان العربية.
لكن القرار السياسي العربي كان مخالفا للمنتظَر فقرر تدمير التجربة وإجهاض الربيع، وتفويت الفرصة على إنقاذ النظام السياسي العربي من نفسه، وتكفلت الأمارات بقيادة هذا المشروع.
أولى الملاحظات الهامة -فيما يتعلق بالدور الإماراتي إقليميا ودوليا- هي اتساع امتداد هذا الدور جغرافياً واختراقه هياكل وأبنية كثيرة، حيث يشمل تقريبا كامل المساحة العربية سواء منها ما شملته رياح الربيع العربي أو تلك التي لم تشملها.
هذا الحضور العمودي والأفقي هو الذي يدفع إلى طرح أسئلة كثيرة عن القدرة والخلفية والأهداف والدوافع. فكيف لدولة صغيرة الحجم أن تتحكم في مصائر ملفات إقليمية كبرى ذات تقاطعات كبيرة إذا لم تكن جزءا من مشروع أكبر؟
قامت الإمارات بحجْر السفر على المواطن القطري الذي اعتبرته بالأمس مرشحا بارزا لقيادة الانقلاب الذي خططت له على نظام الحكم في قطر، ومنعت سفر النساء التونسيات على الخطوط الإماراتية، وقبلها منعت رئيس الوزراء المصري الأسبق أحمد شفيق من السفر لأوروبا، وقبلها أيضا هندست التدخل الدامي في اليمن، ثم رسمت مخطط حصار قطر.
هذه الحوادث الخطيرة -والتي لا تستوفي لائحة الفعل الانقلابي والفوضوي- إنما تشكّل علامات دالة على طبيعة الفعل السياسي الخارجي لدولة الإمارات، وتصورِه لحدود سيادة الدول خاصة العربية منها، ومدى تهديد ذلك للأمن القومي والاجتماعي لهذه الدول.
العبث بالمشهد التونسي
تحمل تونس خصوصيات بالغة الأهمية بالنسبة للقوى العربية الإقليمية، وذلك من زوايا كثيرة ومتعددة؛ فتونس هي -بلا منازع- مهد الربيع العربي ومسقط رأس ثوراته، التي قدمت نموذجا عالميا في قدرة القوة الشعبية السلمية على إسقاط رأس النظام الاستبدادي وتهديد بقية النماذج. وقدمت منوالا سرعان ما نسجت عليه شعوب ليبيا ومصر وسوريا.
هذه الرمزية الثورية التونسية تجعل من هذا النموذج هدفا رمزيا في وعي الثورة المضادة وعقلها الانقلابي. إن الانقلاب على الثورة التونسية وتدميرها يمثل -في الحقيقة- تدميرا رمزيا لكل الربيع العربي وثوراته، بضرب مهده ومسقط رأسه.
وهذا السبب يشكل -في نظرنا- أهم الأسباب التي جعلت غرف العمليات الإماراتية تراهن بقوة على وأد التجربة التونسية، خاصة بعد نجاحها في نسف الثورة المصرية.
إن إفشال الثورة التونسية هو رسالة من النظام الاستبدادي العربي، مغزاها أن العرب لا يصلحون للحرية ولا للانتخابات ولا للديمقراطية، وأن النظام القمعي هو قدَرهم الوحيد. وبهذا تشرّع الأنظمة الدكتاتورية العربية للقمع والاستبداد والفساد ونهب الثراوت، باعتبار ذلك هو الخيار الوحيد لحكم المنطقة العربية.
دعمت الإمارات كل أذرع الدولة العميقة في تونس إعلاميا وسياسيا وماليا؛ فنجحت إعلاميا في تأسيس شبكة هامة من الصحف والقنوات التلفزية والإذاعات والمواقع الإلكترونية، التي تدعمها بشكل مباشر عبر مجموعة من رجال الأعمال، وبالتمويلات التي لم تعد تخفى على أحد.
بل إن آخر المعلومات القادمة من تونس تتحدث عن تمويل الإمارات لمرشحين خلال الانتخابات الرئاسية السابقة التي نجحت في اختراقها. أما الوثائق المسربة أخيرا فتتحدث عن محاولات كبيرة لتكوين "حزام برلماني"، والتأثير على القرارات السيادية للدولة. وهذا بقطع النظر عن القرارات المتشنجة، مثل منع التونسيات من السفر أو العبور نحو أو من مطارات الإمارات.
إن شيطنة الإمارات للفصيل الإسلامي في تونس، وعداءها العميق لكل الطيف الثوري في المشهد السياسي، وسعيها إلى تدمير تجربة التوافق في أعلى هرم السلطة؛ هي أفعال تتجاوز جريمة التدخل في الشأن الداخلي لدولة مستقلة إلى التساؤل عن الدور المشبوه الذي تنهض به؟ وما هي الأجندة التي تخفيها؟ ولصالح من تنفذها؟
لا شك اليوم في أن تخريب المشهد العربي، وضرب كل التجارب الانتقالية السلمية فيه، ودعم الانقلابات الدامية والناعمة؛ إنما يشكل أخطر تهديد لمستقبل المنطقة، لأنه فعل لا يكتفي بمعاداة الشعوب وضرب حقها في الحرية والعدالة الاجتماعية، بل يؤسس أيضا للفوضى والعنف كخيار وحيد للتغيير.
إن أخطر ما يهدد أمن الدول العربية اليوم هو موجة اليأس التي ستعقب حالة الإحباط من فشل الثورات السلمية، لأنها ستشكل قاعدة تبني عليه جماعات العنف والفوضى وقوى التخريب -التي تقف وراءها- مشروعَها في تدمير ما تبقى من كيانات الأمة، وخياراتها السلمية للخروج من حالة الانهيار والتبعية والفساد والاستبداد.
أضف تعليقك