• الصلاة القادمة

    العشاء 17:29

 
news Image
منذ ثانيتين

د. علي الصلابي

مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي

أقام النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- دولته على قواعد وأسس بنيوية عميقة عمادها الإيمان بالله عز وجل وحسن معاملة الخلق وتربية الأفراد تربية عقدية وروحية وعقلية وأخلاقية، لتخلصيهم من كهنوت الجاهلية والصنمية الفردية، ولنشر روح الهداية في ربوع موطن الرسالة الإنسانية الأول "مكة"، قبل هجرته العظيمة إلى المدينة، فكان الإعداد الحقيقي للرسالة في مكة قبل أي مكان آخر.

 

 

أولاً: الإعداد الروحي للرعيل الأول

 

قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]، فالنبي الكريم ربى أصحابه على تزكية أرواحهم، وأرشدهم إلى الطَّريق الَّتي تساعدهم على بلوغ غايتهم من خلال القرآن الكريم؛ وبوسائل أهمها:

1 ـ التَّدبُّر في كون الله ومخلوقاته، وفي كتاب الله تعالى؛ حتَّى يشعروا بعظمة الخالق وحكمته، قال تعالى: "إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ" [الأعراف: 54].

2 ـ التأمُّل في علم الله الشَّامل، وإحاطته الكاملة بكلِّ ما في الكون؛ بل ما في عالم الغيب والشَّهادة؛ لأنَّ ذلك يملأ الرُّوح، والقلب بعظمة الله، ويُطهِّر النَّفس من الشكوك والأمراض. قال تعالى: "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُو" [الأنعام: 59 ـ 60].

3 ـ عبادة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وهي من أعظم الوسائل لتربية الرُّوح وأجلِّها قدراً؛ إذ العبادةُ غاية التذلُّلِ لله سبحانه، ولا يستحقُّها إلا هو؛ ولذلك قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23].

إنَّ تزكية الرُّوح بالصَّلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى والتَّسبيح له وتلك أمور مهمة في الدعوة النبوية قبل الهجرة، فالنَّفس البشريَّة إذا لم تتطهَّر من أدرانها، وتتَّصل بخالقها فلن تقوم بالتَّكاليف الشَّرعية الملقاة عليها. كما أن المداومة عليها، تعطي الرُّوح وقوداً وزاداً، ودافعاً قويّاً إلى القيام بما تُؤمر به، ويدلُّ على هذا أمر الله الرَّسول الكريم في ثالث سورةٍ نزلت عليه بالصَّلاة والذِّكر وترتيل القرآن.

وقد كان الصَّحابة يكثرون من الذِّكر، والدُّعاء، وتلاوة القرآن والاستماع إليه، واغتنام السَّاعات الفاضلة في قيام اللَّيل، ومجاهدة النَّفس على الخشوع والتدبُّر وحضور القلب، فكان ذلك من أعظم القربات إلى الله تعالى، وله اثار عظيمةٌ في تزكية النَّفس، وسموِّ الرُّوح، وترقيتها إلى مقامات الكمال؛ فمن أعظم ما ظفر به الصَّحابة من اثار الذِّكر، والدُّعاء، والتِّلاوة مناجاةُ الله، وتحقيقهم مقامات العبوديَّة التي تُعلي مكانتهم عند الله تعالى.

وفي ذلك، فإن الذِّكر والدُّعاء، وتلاوة القرآن، وقيام اللَّيل، والنَّوافل بأنواعها، لها أثرٌ عظيمٌ في تزكية النفس، وسموِّ الرُّوح، ومهما كتبنا في هذا الموضوع؛ فلا يمكن أن نحيط به في صفحاتٍ أو كتبٍ؛ وإنَّما هذا جزءٌ من كلٍّ وغيضٌ من فيض.

 

ثانيًا: الإعداد العقلي للرعيل الأول

 

كانت تربية النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه شاملةً؛ فهي مستمدةٌ من القرآن الكريم، الَّذي خاطب الإنسان ككلٍّ يتكون من الرُّوح، والجسد، والعقل، فقد اهتمَّت التَّربية النَّبويَّة بتربية الصَّحابي على تنمية قدرته في النَّظر، والتأمُّل، والتفكُّر، والتدبُّر؛ لأنَّ ذلك هو الذي يُؤهله لحمل أعباء الدَّعوة إلى الله، وهذا مطلبٌ قرآنيٌّ، أرشد إليه ربنا تعالى ـ في محكم تنزيله حين قال: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيات وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].

إنَّ العقل نعمةٌ من الله على الإنسان يتمكَّن بها من قبول العلم، واستيعابه؛ ولذلك وضع القرآن الكريم منهجاً لتربية العقل المسلم، وهو ما سار عليه الرسول الكريم في تربية أصحابه؛ ومن نقاط هذا المنهج:

1 ـ تجريد العقل من المسلَّمات المبنيَّة على الظنِّ والتَّخمين، أو التبعيَّة والتقليد، فقد حذَّر القرآن من ذلك في الآية الكريمة بقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].

2 ـ إلزام العقل بالتَّحرِّي والتَّثبُّت، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

3 ـ دعوة العقل إلى التدبُّر والتأمُّل في نواميس الكون والحياة. قال الله تعالـى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآَتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85].

4 ـ دعوة العقل إلى التأمُّل في حكمة ما شرع الله لعباده من عباداتٍ، ومعاملاتٍ، وأخلاقٍ، وآداب، وأسلوب حياةٍ كاملٍ في السِّلم والحرب وفي الإقامة والسَّفر؛ لأنَّ ذلك يُنْضِجُ العقل، وينمِّيه، وبتعرُّفه على تلك الحكم يعطيه أحسن الفرص، ليطبق الشَّرع الرَّبانيَّ في حياته، ولا يبغي عنه حولاً؛ لما فيه من السَّكينة، والطمأنينة، والسَّعادة للبشريَّة، ولأنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ إنَّما شرع ما شرع لذلك.

 

5 ـ دعوة العقل إلى النَّظر إلى سنَّة الله في النَّاس عبر التَّاريخ البشريِّ؛ ليتَّعظ النَّاظر في تاريخ الآباء، والأجداد، والأسلاف، ويتأمَّل في سنن الله في الأمم، والشُّعوب، والدُّول. قال الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ *} [الأنعام: 6].

كانت تلك الآيات الكريمة مرشدًا ودليلًا للصَّحابة لاستخدام عقولهم وفق المنظور الرَّبانيِّ؛ لكيلا تضلَّ عقولهم في التيه؛ الَّذي ضلَّ فيه كثيرٌ من الفلاسفة، الَّذين قدَّسوا العقل، وأعطوه أكثر ممَّا يستحقُّ، وقد كان لهذه التَّريبة القرآنية آثارها العلمية العظيمة.

 

ثالثاً: الإعداد الجسدي للرعيل الأول

حَرَصَ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) على تربية أصحابه جسديًّا، واستمدَّ أصول تلك التَّربية من القرآن الكريم، بحيث يؤدِّي الجسم وظيفته الَّتي خلق لها، دون إسرافٍ أو تقتيرٍ، ودون محاباةٍ لطاقة من طاقاته على حساب طاقةٍ أخرى. وإنَّ الله أرشد عباده في القرآن إلى ما أحلَّه من الطَّيبات وما حرَّمه من الخبائث، وأنكر على أولئك الَّذين يُحرِّمون على أنفسهم الطَّيبات، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32].

ولاشكَّ أنَّ الإنسان عندما يُلبِّي حاجاته البدنيَّة، بإمكانه بعد ذلك أن يؤدِّيَ وظائفه الَّتي كلَّفه الله بها في الدُّنيا؛ من عبادة الله، واستخلافٍ في الأرض، وإعمارها، وتعارفٍ، وتعاونٍ على البرِّ والتَّقوى مع إخوانه في الدِّين؛ ولذلك ضبط القرآن الكريم حاجات الجسم البشريِّ كالحاجة إلى الطعام والشراب والملبس والمأوى والزواج والأسرة والتملك والسيادة وتحريم الظلم والعدوان والبغي والحاجة إلى العمل والنجاح والتحذير من الدعة والبطر والاغترار بالنعمة. وهكذا ربَّى النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) صحابته على المنهج القويم، منهج تزكية الأرواح، وتنوير العقول، والمحافظة على الأجساد، وتقويتها؛ لترسيخ الشَّخصيَّة الإسلاميَّة الرَّبَّانيَّة المتوازنة، ولقد نجحت تربيته (صلى الله عليه وسلم) في تحقيق أهدافها المرسومة في مرحلة الرسالة الأولى.

رابعاً: الإعداد الأخلاقي لجيل الدعوة الأول

أتيح للرَّعيل الأوَّل من صحابة النبي الكريم أكبر قدرٍ من التَّربية والإعداد العقدي والروحي والجسدي والعقلي والأخلاقي على يد مربِّي البشريَّة الأعظم محمّدٍ (صلى الله عليه وسلم)، فكانوا هم حداة الرَّكب، وهداةُ الأمَّة

سار النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) على المنهج القرآني في تربية أصحابه على الأخلاق الكريمة، وكانت الأخلاق مرتبطة في العبادة والعقائد في وقتٍ واحدٍ؛ لأنَّ العلاقة بين الأخلاق والعقيدة بينة وواضحةٌ في كتابه عز وجل، وقد بيَّن سبحانه لرسوله (صلى الله عليه وسلم)، وللمسلمين، الأخلاقيات الإيمانيَّة الَّتي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون بـ (لا إله إلا الله)، والأخلاقيات الجاهليَّة الَّتي ينبغي أن ينبذها المؤمنون، والحقيقة: أنَّ التَّنديد بأخلاقيات الجاهلية قد بدأ منذ اللَّحظة الأولى، مع التنديد بفساد تصوُّراتهم الاعتقاديَّة، واستمرَّ معه حتَّى النِّهاية.

إنَّ الأخلاق في التَّربية النَّبويَّة شيءٌ شاملٌ، يعمُّ كلَّ تصرُّفات الإنسان، وكلَّ أحاسيسه، ومشاعره، وتفكيره؛ فالصَّلاة لها أخلاقٌ هي الخشوع، والكلام له أخلاقٌ هي الإعراض عن اللَّغو، والجنس له أخلاق هي الالتزام بحدود الله، وحرماته، والتَّعامل مع الاخرين له أخلاقٌ هي التوسُّط بين التقتير والإسراف، والحياة الجماعيَّة لها أخلاقٌ، هي أن يكون الأمر شورى بين النَّاس، والغضب له أخلاقٌ هي العفو والصَّفح، ووقوع العدوان من الأعداء تستتبعه أخلاقٌ هي الانتصار ـ أي: ردُّ العدوان ـ وهكذا لا يوجد شيءٌ واحدٌ في حياة المسلم ليست له أخلاق تُكيِّفه، ولا شيءٌ واحدٌ ليست له دَلالةٌ أخلاقيَّةٌ مصاحبةٌ.

هذه بعض الخطوط في الإعداد العقدي والروحي والأخلاقيِّ في الفترة المكِّيَّة قبل الهجرة، ولقد أتت هذه التَّربية أُكُلَها، فقد كان ما يزيد على العشرين من الصَّحابة الكرام من الخمسين الأوائل السَّابقين إلى الإسلام، يمارسون مسؤولياتٍ قياديَّةً بعد توسع الدَّعوة، وانطلاقها في عهد النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) وبعد وفاته، وأصبحوا القادة الكبار للأمَّة، وعشرون اخرون معظمهم استشهدوا، أو ماتوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؛ فكان في الرَّعيل الأول أعظم شخصيات الأمَّة على الإطلاق، كان فيه تسعةٌ من العشرة المبشَّرين بالجنَّة، وهم أفضل الأمَّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومنهم نماذج أسهمت في صناعة الحضارة العظيمة بتضحياتهم الجسيمة، كعمَّار بن ياسر، وعبد الله بن مسعودٍ، وأبي ذرٍّ، وجعفر بن أبي طالب، وغيرهم رضي الله عنهم، وكان من هذا الرَّعيل أعظم نساء الأمَّة خديجة رضي الله عنها، ونماذج عاليةٌ أخرى، مثل أمِّ الفضل بنت الحارث، وأسماء ذات النِّطاقين، وأسماء بنت عُمَيس، وغيرهنَّ.

يمكننا القول: لقد أتيح للرَّعيل الأوَّل من صحابة النبي الكريم أكبر قدرٍ من التَّربية والإعداد العقدي والروحي والجسدي والعقلي والأخلاقي على يد مربِّي البشريَّة الأعظم محمّدٍ (صلى الله عليه وسلم)، فكانوا هم حداة الرَّكب، وهداةُ الأمَّة. فقد كان رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) يزكِّيهم، ويربِّيهم وينقِّيهم من آثار الجاهليَّة، فإذا كان السَّعيد الذي فاز بفضل الصُّحبة مَنْ رأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولو مرَّةً واحدةً في حياته، وآمن به، فكيف بمن كان الرَّفيق اليوميَّ له، ويتلقَّى منه، ويعبق من نوره، ويتغذَّى من كلامه، ويتربَّى على عينه.

 

أضف تعليقك