بقلم ..عزة مختار
المقدمات والنتائج
لا جدال في أن النفس الإنسانية حين تقع تحت وطأة نير العمل ومشقته وتكد في سبيل هدف ما ، فهي تطمح ليوم تجد فيه نتيجة ما تقدم، فالزارع في أرضه يخرج كل يوم في الصباح باكرا يتعهد أرضه بالعناية بالغرس والتمهيد له وريه وإصلاح تربته، لا يفعل كل هذا وليس في مخيلته أن يرى النبت يخرج من باطن التربة، ثم هو بعد ذلك لا يكف عن رعايتها حتى تنمو وتخرج الثمار منتظرا يوم الحصاد ، ولا يقنعه حين يفسد الزرع أو يفشل في إخراج الثمر أنه بذل ما عليه من جهد وأنه غير مخول بالنتائج ، إنما في هذه الحالة يتهم نفسه بالتقصير ، بل ويراجع ويحاسب نفسه في أي مرحلة من مراحل الزرع قصر حتي لا يكرر الخطأ
وقياسا على ذلك كل مجال عمل لإنسان هو يحب أن يري نتاج ما قدم بين يديه، فالنتيجة هي الدافع، والثمرة هي الجائزة، والأجر على قدر من تعمل لديه
والعمل عند الله هو أشرف العمل ، وثوابه هو أعظم الأجر وعد الله به العاملين لديه بالجنة والتكريم وجوار الأنبياء والصالحين ، والله سبحانه هو من خلق النفس الإنسانية وهو أعلم بحالها من استعجالها وحبها لعاجل الأجر ، ولم ينكر عليها ذلك ، بل أكد وعده للعاملين في سبيله لتشمل عاجل الأجر وآجله في سورة النور: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ "، فالاستخلاف والتمكين والأمن نتائج لمقدمات هي الإيمان والعمل الصالح ، الإيمان الذي ينزع كل عبودية من قلب المؤمن لتكون عبوديته خالصة لله وحده من دون طواغيت الأرض ، فلا خوف من مستبد يمنع من العمل على إقامة كلمة الله ، ولا خوف على فوات دنيا يمنع من إصلاح الأرض وتعبيدها لله ، لأن الإيمان قد تمكن من القلب كله فصار الإنسان حرا من ربقة النزوع إلي المذلة والاستسلام.
حقيقة الاستخلاف:
يحسب البعض أن الاستخلاف هو الغلبة والحكم وحدهما دون فعل الشرط اللازم لهما وهو الإصلاح والتعمير والبناء وإقامة العدالة المستمدة من المنهج السماوي وليست المستندة إلي هوي القوي ، يقول سيد قطب في ظلاله عن حقيقة الاستخلاف " إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة لا على الهدم والإفساد ، وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة لا علي الظلم والقهر ، وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان ، وعدهم بالتمكين ليحققوا النهج الذي أراده الله ، ويقرروا العدل الذي أراده الله ، ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله "
فالاستخلاف ليس لجنس من الأجناس، ولا لنوعية من البشر، إنما هو للجماعة المؤمنة التي تمكن الدين من قلوبهم فحولوه لطاقة عملية تغير الأرض من حولهم فيتم لهم التمكين الرباني شرط عدم التبديل أو التقصير، وطالما تحقق الشرط فيهم، تحقق فيهم وعد الله لهم، وأما تتمة الآية " وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا " تدل على أن التمكين بعد ضعف وخوف حتى أن رجلا من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا، أما يأتي علينا يوم نأمن ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ ليست فيه حديدة “، والتاريخ خير شاهد بين أيدينا فقد تم الأمر للمسلمين وظل متحققا فيهم معني التمكين ما قاموا بشرط الله " يعبدونني لا يشركون بي شيئا " ووعد الله قائم للمسلمين إلى قيام الساعة ما حققوا ذلك الشرط كذلك، فإذا تأخر النصر فلعلة ما بهم، أو التقصير في شرط من الشروط حتى يقيموه كاملا.
أنواع التمكين وصور النصر
قال سبحانه في سورة غافر “إنا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ "، وتشير هذه الآيات إلى أن النصر حليف المؤمنين بدءا من الأنبياء والمرسلين وصولا لكل عبد من عباد الله يكون جندا له سبحانه
وتشير أيضا إلى أن النصر يكون في الدنيا قبل الآخرة " في الحياة الدنيا "
وهنا يجب ألا نخلط بين مفهومين
الأول: وهو تأخر النصر لعدم استنفاد أسبابه بعد
والثاني: أن تكون الفئة المؤمنة منتصرة فعلا غير أن ظاهر الأمر لا يوحي بذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة، فنجد في القصص القرآني مثلا أن من الأنبياء من قتله الكافرين كيحيي وزكريا، وإبراهيم عليه السلام الذي هاجر من بلاده وأُلقى في النار، فأين وعد الله بالنصر؟
يقول صاحب الظلال "ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل: إن الناس يقيسون بظواهر الأمور، ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.
إن الناس يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صور النصر شتى، وقد يلتبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة.. إبراهيم عليه السلام وهو يُلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها.. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك -في منطق العقيدة - أنه كان في قمة النصر وهو يُلقى في النار، كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار، هذه صورة وتلك صورة وهما في الظاهر بعيد من بعيد.. فأما في الحقيقة قريب من قريب) "
فللنصر إذن أنواع وصور قد تتجاوز مفاهيم البعض الذين يرونه على صورة واحدة وهي التمكين من حكم الناس وسياستهم وتبعيتهم لهم ، أو هلاك الظالمين أو اتباعهم الحق مذعنين ( وذلك حاصل لا محالة لكنه غير مرتبط بعمر الإنسان القصير ، وإنما يُقاس بعمر الدعوات وعمر الحضارات )، وحقيقة الأمر أن الدنيا دار بلاء واختبار ، ومناط تكليف الإنسان هو صبره على العمل ، وحقل عمل المؤمن هو تلك النفوس المستعصية علي الإيمان ، فهي إما أن تسلم لله وتؤمن بعد عنت ومشقة ، أو قد تمتد يدها بالإيذاء للمؤمن القائم عليها والمقدم لها مشروع الهداية الرباني ، وفي كل الأحوال بالنسبة للمؤمن هو انتصار له ، فمهمته التبليغ
إن ما يجب أن يشغل المؤمن هو نفسه، إخلاصه في حمل القضية، وإخلاصه واهتمامه بالخلق، تعدد وسائله بما يتناسب ولغة العصر الذي يعيشه واستيعاب الآخر لما يقدمه، علاقته بالله وعلاقته بالآخر، ثم هو نفسه هل يطبق ما يحمله على نفسه أم أنه كالحمار الذي يحمل الأسفار ولا يفقه منها شيء كما كان حال بعض الأمم السالفة والتي خانت فبدلها الله عز وجل بغيرها؟
إن طريق الدعوات لو كان سهلا يسيرا، لما استطعت أن تطهر المجتمع من المنافقين وضعفاء النفوس والانتهازيين، ولاهتزت صورة المجتمع المؤمن بوصول هؤلاء لسدة الحكم والمسئولية بنفاقهم وانتهازيتهم، ولذلك كان الطريق شاقا، والابتلاء شديد، ولن يصمد فيه إلا تلك القلة المتماسكة المتصلة بحبل وثيق من الله ومع الله وبالله.
أضف تعليقك