أن نقول بعد ثلاث حلقات؛ الثورات كامنة، جامعة، قائمة، فلعلنا نختتم ذلك المربع المهم فيما تبقى من ثورة يناير بمعنى أخر يتعلق بشروط أن تكون "الثورة فاعلة"، ذلك أن فاعلية الثورات لا تقاس بالأيام والسنين ولكنها تقاس بالنتائج والآثار، ومهما قال هؤلاء الذين مثلوا الثورة المضادة أنهم قد انتصروا فإن الثورات ما زالت تمثل أعظم هاجس يقض مضاجعهم ويقلق بالهم، وبينما الثورات تطلق طاقات وإرادات الشعوب، فإن الثورة المضادة تزهق حياة الشعوب وتصادر خياراتها وإراداتها، بين هذا وذاك سيظل هذا التدافع بين ثورة مضادة تخوض معاركها الأخيرة وبين ثورات مستحقة تؤكد على حقوق الشعوب في الكرامة والحرية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية.
نتحدث عن هذا الأمر وتهب علينا نسمات ثورة استطاعت أن تخلع فاشية عاتية استمرت قرابة الثلاثين عاما ألا وهو المخلوع "حسني مبارك"، في 11 فبراير/شباط 2011 سقط الطاغية غير مأسوف عليه ولكنه حينما سقط؛ سقط قناعا وأبقى صبيانه من مجلس عسكري تلاعب بالمواقف وبالأحداث، واستطاع هذا المجلس أن يقوم بكل حركاته الالتفافية والخادعة التي حاولت مصادرة هذه الثورة لمصلحة قوى متنفذة ومتحكمة تمثلت في مشهد لعسكر متلونين، في كل مرة سيخرج العسكر من جرابهم ألوانا وأشكالا يحاولون أن يجعلوا السلطة في حجرهم ولكنهم في كل مرة سيتلونون مرة في الواجهة ومرة من وراء ستار، هكذا استطاع العسكر أن يحاصروا ثورات شعبية حقيقية، وفي حقيقة الأمر فإن هؤلاء الذين تلاعبوا بإرادة هذا الشعب استطاعوا أن يقوموا بأدوار غاية في الخطورة حتى في أثناء ثورة يناير.
سنرى في يوم 2 فبراير/شباط وأثره في حادثة الجمل بصمات العسكر واضحة في محاولة إفشال ثورة واحتوائها، قامت المخابرات الحربية التي كان السيسي رئيسا لها بصناعة هذا الحدث وتمريره، والذي صار بعد ذلك متصدرا نظام 3 يوليو/تموز في ثورته المضادة وفي انقلابه الشهير، كان هو مدبر "موقعة الجمل" من ألفها إلى يائها، ومن أجل ذلك حينما كشف النقاب عن ذلك أحدهم؛ أراد هؤلاء من أصحاب المصالح الدنيئة أن يطمسوا الحقيقة، وإذا أردت أن تعرف الأثر الذي يتعلق بقضية واقعة الجمل فعليك أن تطالع تقرير لجنة تقصي الحقائق المظلوم والمهضوم الذي يكشف دور العسكر بمخابراته الحربية وبأدواره الخبيثة التي قام بها في محاولة إفشال هذه الثورة الشعبية، لكن الشعب المصري بصموده وبكل فئاته استطاع أن يقاتل بضراوة في "معركة الجمل والبغل" بكل طاقاته وهنا تيقن العسكر أن عليهم أن يلعبوا دورا أخر يستطيعون من خلاله أن يطوقوا ثورة بكل أهدافها ويحدثون أمرا يجهضون فيه ثورة يناير العظيمة.
في يوم 11 فبراير/شباط الذي حمل عنوانا عظيما "سقط الطاغية"، ولكنه في حقيقة الأمر "ترك الحاشية"، ولم يكن في تفكير وتدبير أهل الثورة أن هؤلاء سيدخل بعضهم الجحور بعض الوقت وسيقوم بعضهم بتمثيلية في محاكمات هزلية انتهت في النهاية بحالة مهرجانية سماها هذا الشعب تندرا "مهرجان البراءة للجميع"، بينما كان هناك تدبير آخر؛ تدبير انقلابي لإجهاض الثورة، ثم أطل هؤلاء برؤوسهم من جحورهم وقاموا بالانقلاب الدنيء فاستطاعوا أن يكسبوا جولة، ولكن ظلت الثورة باقية، وكان هؤلاء الذين مثلوا الثورة المضادة يقومون بكل فعل يؤدي إلى ترويع العباد وبيع أراضي البلاد والتفريط في موارد الوطن من أقرب طريق، وحاولوا أن يطوعوا هذا الشعب بالحديد والنار وصنعوا جمهورية الخوف.. ترويع وتفزيع وإفقار وتجويع.
علينا أن نؤكد أنه لو تكرر مشهد 11 فبراير/شباط فإن على الثورة في هذا المقام ألا ترحل من ميادينها وأن ترابط في أماكنها وأن تحمي أهدافها وأن تحكم أو تشارك على الأقل في حكم بلادها، هذه هي المعادلة الكبرى التي تضمن حال الفاعلية وتجعل من الثورة حالة فاعلة مؤثرة تعمل على تحقيق أهدافها بكل طاقتها وفتوتها، بكل قدرتها وإمكاناتها حتى تؤكد معنى الثورة حينما تبني الوطن وتؤسس لدولة جديدة، "دولة يناير" بكل أبعادها وكل مكنوناتها لتعبر عن أشواق شعبها وكرامة مواطنها ومكانة وطنها، فمتى تكون الثورة فاعلة؟ حينما تحكم أو تشارك في الحكم.
كذلك فإن الثورة فاعلة حينما تجعل من قوانين الثورة لا متاهات القانون الذي صنعه هؤلاء على أعينهم يعرفون مداخله ومخارجه وثغراته التي ينفذون منها ليحققوا مآربهم وأهدافهم، خدعوك فقالوا إنك في ثورتك تستطيع أن تجمع بين الثورة وذات القانون الذي اصطنعه النظام السابق لحماية منظومته، فكان على الثورة أن تنفذ قانونها وأن تؤكد على مساراتها وأن تؤسس لمحاكم ثورية ضمن طاقة ثورية تقوم على العدل، ولكنها لا بد وأن تنال من كل هؤلاء الذين ظلموا هذا الشعب وقاموا بكل ما من شأنه أن يهيمنوا على مقدراته ويسرقون أقواته ويتلاعبون بمقدراته، فقط هنا تكون الثورة حينما تحاسب وتراقب وتتابع وتؤكد على عافيتها كما تمكن بعنفوانها وتحاسب كل أعدائها.
كذلك فإن الثورة بفاعليتها لا بد وأن تؤكد على صناعة وتعظيم طاقتها الرمزية التي تتمثل في القيادة الحقيقية، تعمل جاهدة على حمل أهداف الثورة والتمكين لها من كل طريق وتعمل جاهدة على فك ملف الثورة المضغوط الذي صنعته الثورة في 18 يوما فحققت وبطاقتها الكبيرة عملا غير مسبوق في التحام قوى الشعب بقواه، وتأسيس حاضنة شعبية استطاعت أن تحتضن الثورة ولو إلى حين، لكن هؤلاء -زبانية العسكر وخدامهم- قاموا بكل عمل لتشويه الثورة ومحاولة تحقيق حصارها الكامل والشامل، فكان على هؤلاء فك هذا الملف المضغوط في المجتمع ليستطيعوا بذلك أن يتلمسوا طاقاته الحقيقية وأن يتحكموا في مفاصله الشعبية في المحليات ومراكز الشباب ونقابات العمال ومنظمات المجتمع المدني وكل ما يتعلق بالمجتمع، إنها البنية التحتية التي تشكل الظهير الشعبي الحقيقي الفعّال الذي يحتضن الثورة طاقة وأهدافا.
وفي هذا المقام فإن علينا كذلك أن نذكر أن هذه القوى السياسية التي لم تتدرب على أصول توافق وإدارة الاختلاف والتعدد، وجعلت "فيرس الاستقطاب" يتمكن منها وبمقدراتها، فتركت الباب واسعا لقوى التربص والثورة المضادة أن تقوم بتخطيطاتها الدنيئة وتحاول من كل طريق أن تطوق الثورة وكل طاقاتها، لم ينجح الثوار وقواهم الحقيقية إذَن في التعامل مع مشكلة الاستقطاب التي تمكنت فتحولت إلى حالة تنازعية وتبددت تلك الوحدة التي تراكمت في الثمانية عشر يوما، إن ثورة الثمانية عشر يوما أبرزت كل فضائلنا، أما إدارة الثمانية عشر شهرا فأبرزت كل معايبنا وسوآتنا وتمكن هؤلاء المتربصون من صناعة الفرقة والفوضى، إنها مناخاتهم التي يستطيعون أن يعبثوا في سياقاتها ما شاؤا؛ فصنعوا الفرقة وصنعوا الفوضى.
وأخيرًا فإن مشروع الثورة الذي كان في طاقته الكبرى لم يتلازم معه مشروع حقيقي قادر على إدارة الثورة وتسيير الدولة، فاستطاع هؤلاء الزبانية الذين مثلوا الدولة العميقة والثورة المضادة أن يلتفوا على ثورتنا، ومن المهم بعد ذلك أن نتأهل للتغير القادم بوعي حاد واصطفاف كامل، فبدون هذه الشروط لا يمكن لثورة أن توجد، وبهذا فقط نؤسس لتغيير قادم ونهوض دافع لتخرج الثورة من كمونها بشرط جامعيتها لتؤكد حالتها القائمة وتمكن بطاقتها الفاعلة، الثورة فاعلة.. الثورة فاعلة.
أضف تعليقك