لم تُفلح مُحاولة تأديبه بواسطة الشّبِّيحة، فتدخّل النّظام العسكريّ بكلّ ثِقَلِه ليُمارس عمليّة تأديب، وتهذيب، وإصلاح، القاضي السّابق هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزيّ للمُحاسبات؛ لأنّه لم يستوعب الرّسالة، واستمرّ يُواصل الهجوم على أهل الحُكم!
لم يستشعر النّظام الحاكم في مِصرَ الحرج، لأنّ الأهالي تمكّنوا من القبض على البلْطَجِيَّة الذين حاولوا اختطاف الرّجل، ليتبيّن أنّهم من النّوع المُعتمد أمنيّاً، وأنّهم كانوا في مُهمّة رسميّة، فتمّ الإفراج عنهم بكفالة مُتواضعة، وهي خَمْسمِئة جنيه، في حين أنّ من تظاهروا ضدّ التّفريط في تيران وصنافير، كان الإفراج عنهم بكفالة مئتي ألف جنيه لكلّ منهم، وكأنّهم خانوا «عرابي» في التّلّ الكبير!
وقد قرّر القوم أن يُلاعبوا الرّجل على المكشوف، فكان بيان المُتحدّث العسكريّ، الّذي اتّهمه بإهانة الدّولة المِصريّة، في حديثه المُتلْفز، الّذي أذاعته «الجزيرة» نقلاً عن وكالات أخرى، إذ يقال إنّه كان لصالح وكالة رويترز، امتنعت عن بثّه، خوفاً من بطش النّظام الذي طار صوابه وتوحّش، فاندفع يُطيح بالخلائق، وكأنّنا أمام ثور هائج، لا يرحم صغيراً ولا يُوقّر كبيراً!
جريمة المُستشار هشام جنينة، أنّه كان ثاني اثنين مثّلا الكتلة المدنيّة (الصُّلبة) الّتي شكّلها الفريق سامي عنان، عندما قرّر عزمه خوض الانتخابات الرّئاسيّة، حيث كان الآخر هو الدكتور حازم حسني، الأستاذ بكُلّية الاقتصاد والعلوم السياسيّة، وتمّ اختطاف عنان، وإذاعة بيان لقيادة الجيش، يُوحي كما لو أنّ الحرب قد قامت، فهذه بيانات حروب، ولا تصدر في مُواجهة الأفراد، لاسيّما إذا كان المُستهدف به جلس على أعلى قمّة المُؤسّسة العسكريّة، فإذا كان النّظام السّياسيّ قام بالتنكيل برئيس أركان الجيش في حرب أكتوبر الفريق سعد الدّين الشاذلي، الّذي تمّ اتّهامه بكلّ نَقِيصة وطنية، فلم يصدر بيان من قيادة الجيش ضدّه، فقد ترك أمره للقيادة السياسيّة مُمثّلة في الرّئيس السادات؛ وإذ أقام الشاذلي دعوى أمام القضاء الإداريّ لإلزام وزارة الداخليّة، بتجديد جواز سفره الدبلوماسيّ، فقد صدر الحكم بالرّفض، وجاءت حيثيّاته لتتّهمه بالخروج على قيم المُجتمع، وأنّه ارتكب أعمالاً تمسّ أمن الدولة!
ولم تتدخّل قيادة الجيش طرفاً في عمليّة الإدانة، حتى بعد أنْ تمّ الحُكم عليه بالسَّجْن، من قِبل محكمة عسكريّة، وتمّ تنفيذ الحُكم فعلاً بقرار من حسني مبارك!
ورُغم هذه الإدانة فقد قام المجلس الأعلى للقوّات المُسلّحة بتكريم الرّجل، عندما رحل مبارك، وظهر أعضاء المجلس العسكريّ في صورة من لم يكن طرفاً في عمليّة إهانته، فإنْ كان قد فعل هذا مبارك والسادات، فإنّه حكم القوّة الغاشمة، الّتي لم يملكوا حيالها صدّاً أو ردّاً، فكان التّكريم «قسمتنا فيما نملك»، فلا يؤاخذنا الفقيد وأهله «فيما لا نملك»!
وقد كان اللافت، هو تدخُّل لجنة الانتخابات الرّئاسيّة، بشطب الفريق سامي عنان من كشوف النّاخبين، ليفقد شرطاً من شروط التّرشُّح، فقانوناً كان يمكنه التّرشُّح، لتظلّ عمليّة الحصول على مُوافقة الجيش باعتباره لا يزال على قيد الاستدعاء، أمراً يخصّه مع الجيش، فليس من شروط التّرشُّح بالنسبة للعسكريّين الحصول على هذه المُوافقة!
اللجنة تحرّكت على أساس أنّ قراراتها مُحصّنة ضدّ الطّعن عليها أمام القضاء، بحكم قانونها، لكن كانت هناك ثغرة انتبهنا لها مُبكّراً، إذ جاء النصّ الدستوريّ، يبيح الطّعن في قراراتها أمام المحكمة الإداريّة العليا، وعرضتُ نصَّ التحصين والمادّة الدستوريّة على صفحتي على «الفيس بوك»، وكان المُستشار هشام جنينة قد قرّر الطّعن في قرار اللجنة بشطب عنان، وكانت دولة العصابات جاهزة للانقضاض عليه، ومنعه من الوصول للمحكمة من خلال المُحاولة الفاشلة لاختطافه!
كان أمام المحكمة الإداريّة العليا أمرٌ من اثنين: الأوّل أن تُعمِلَ النصّ الدستوريّ ومن ثم تَقْبَل الطّعن، وتُعيد إدراج الفريق سامي عنان في كشوف النّاخبين، ليصبح من حقّه التّرشُّح، أو أنْ تُحيل الطّعن إلى المحكمة الدستوريّة العليا، للفصل في دستورية مادّة التحصين. وفي الحالتين كون أمام عملية بطلان مُؤجلة للانتخابات الرّئاسيّة، وعندما يكون الظّرف السياسيّ مواتياً، وإذا كان السيسي في وضع يجعله قادراً على التّنكيل بمُنافسيه، فقد لا يكون قادراً على ذلك بعد عام أو عامين!
وكانت المُفاجأة أنّ هشام جنينة لم يسكت، حيث ضرب على الوتر الحسّاس، بشكل مثّل مُفاجأة، فإذا كنّا نُدرك أنّ الرّجل ليس «وِشّ بهدلة»، فقد فاجأنا ما جاء على لسانه في حواره الأخير، إذ أعلن أنّ الفريق سامي عنان، يملك أدلّة تكشف «الطّرف الثّالث»، المسؤول عن الّدماء الّتي أُريقت من بعد الثورة إلى الآن، وبعد أربع وعشرين ساعة، جاءت الرّدود مُتزامنة، فالمُتحدث العسكريّ أعلن اتّخاذ الإجراءات القانونيّة ضدّ جنينة، ومُحامي عنان قال إنّه سيقوم بالإجراءات القانونيّة ضدّ القاضي السّابق الذي أضرّ بمركز مُوكله القانونيّ، كما أنّ نجل سامي عنان الأستاذ الجامعيّ المفصول من عمله اندفع مُندّداً ونافياً، ما جاء على لسان هشام جنينة!
ليبقى السؤال: ما هو موقف سامي عنان نفسه؟، وهل التقى به مُحاميه في محبسه وأنّه طلب منه اتّخاذ الإجراءات القانونيّة ضدّ أحد نائبَيه؟ وليطرح هذا سؤالاً آخرَ عن حدود الوكالة القانونيّة؟ فمن أولى بتمثيل عنان سياسيّاً؟ هشام جنينة، أم مُحاميه ناصر أمين، الذي نتشكّك في أنه يحمل توكيلاً عنه حتّى كتابة هذه السّطور؟!
«الطّرف الثّالث» هو مُصطلح شائع منذ الثّورة، ويُقصد به الّذي كان يعمل على أنْ تعمّ الفوضى، حتّى يكفر الناس بالثّورة، وهو المنسوب إليه الكثير من عمليّات القتل والتّخريب، فمن قتل الشّهيد عماد عفّت، ومن قام بإضرام النّيران في المجمع العلميّ، ومن ارتكب الكثير من المجازر، هو الطّرف الثّالث، فمن يكون؟!
ليس هناك مُبرّر لغضْبة الجيش التي ظهرت في بيان المُتحدّث العسكريّ لما قاله هشام جنينة، وليس هناك مُبرّر لأن تُحال القضيّة إلى النّيابة العسكريّة، والأمرُ لا علاقة له بالجيش كمؤسّسة قتاليّة، وإنّما يختصّ به المجلس الأعلى للقوّات المُسلّحة كجهة حكم تنازل لها مبارك عن السّلطة بعد تنحّيه، بَيدَ أنّها سياسة رأس الذّئب الطّائر، فضلاً عن أنّها رغبة قديمة من قِبل السيسي في الانتقام من هشام جنينة!
لقد اختار الرّئيس محمّد مُرسي هشام جنينة رئيساً للجهاز المركزيّ للمُحاسبات، وعندما وقع الانقلاب العسكريّ، كان ولأسباب مُرتبطة بشخصيّته يظنّ أنّه يُمكن أن يستكمل مهمّته من خلاله، فتقرّب إلى السيسي بالنّوافل، لكن المُنقلب لم ينسَ له أبداً أنه كان من قضاة الاستقلال الّذين قوّضوا شرعيّة مبارك قبل الثّورة، والّذين خرجوا للشّارع يندّدون بالاستبداد. فضلاً عن أنّه ينتقم منه، لحرصه في فترة الزّخم الثوريّ على أنْ يُراقب حسابات وزارتَي الدّاخلية والدّفاع!
وكما كان تصريحه الأخير، عن الوثائق الّتي يملكها عنان وتُدين الطّرف الثّالث هو القَشّة التي قصمت ظهر البعير، فقد كان تصريحه عن حجم الفساد في مِصر هو القَشّة أيضاً التي قصمت ظهر البعير!
لكنّ القصّة لم تتمّ فصولاً، فالليالي من الزّمان حبالى، مُثقلات يَلِدْن كلّ عجيب!
أضف تعليقك