كان مجلس التعاون الخليجي (تأسس ١٩٨١) نموذجا واعدا لمنظمة إقليمية تعاهدية غرد النص عبر تويتر، أتيحت لها عوامل التقارب الموشك على الاتحاد في دينها ولغتها، ونظمها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدبلوماسية، والاتصالاتية والمرورية.
وكانت قادرة أيضا على النجاح فيما بدأت دراسته أو تقليب الرأي فيه، من توحيد سياساتها النقدية والثقافية والرقابية والجوازاتية، والتربوية والعمالية والتجارية والصحية والتأمينية. لكنها عانت -في السنوات الخمس الأخيرة- من أزمتين فكريتين عاصفتين كانتا ولا تزالان بمثابة فتيل جاهز للاحتراب الحقيقي، وليس للاختلاف المتصاعد فحسب.
الأزمة الأولى هي أزمة الهوية المتمنّاة؛ وباختصار شديد غير مخل وغير متجاوز، فإن هذه الأزمة تصاعدت مع إلحاح أبو ظبي على إيثار وتفضيل الهوية المفرغة من الإسلام وتعاليمه الحياتية.
وقد بدت هذه الرغبة وكأنها توجهات حديثة الظهور أو البزوغ على أيدي الحكام الظبيانيين الحاليين، حتى وإن كانت لها جذور دالة فيما مضى، مما كان يستنكره كثيرون على هذه السلطة سرا من سماحها العلني ببعض الممنوعات الشرعية، دون اضطرار أوحاجة إلى التصريح الرسمي بالرأي في هذا التجاوز الخلقي والاجتماعي والديني.
وقد تدحرجت التوجهات الجدية الداعية إلى تفريغ الهوية من الدين حتى وجدت نفسها محاصرة معنويا، وأنه ليس لنجاتها سبيل من هذا الانحصار إلا برفع راية العلمانية بالمعنى المسرف، الذي يسدل على المصطلح -الذي لم يملك من أمره شيئا- أمنية البعد كلية عن الدين ومجافاته أيضا.
ومن العجيب أن أيا من الدول الخمس الأخرى في مجلس التعاون الخليجي ليست على أية درجة من درجات الاستعداد المعنوي ولا النفسي، للسير وراء الإمارات في التعبير الصريح المتحدي، أو فلنقل في الإعراب الواضح عن قبول مثل هذا التوجه.
بل إن الرفض لا يقف عند حدود الدول الخمس في مجلس التعاون، وإنما يمتد إلى غالبية الإمارات السبع التي تضمها دولة الإمارات العربية المتحدة، رغم أنها -بحكم طبيعة النظام الاتحادي- لا تتصل بالعالم في تعبيرها عن اجتهاداتها السياسية داخل كيان دولة الإمارات.
ومع أن الإمارات صادفت كثيرا من عناصر الحظ المواتي في دعوتها الملحة إلى فكرتها؛ فإن الله سبحانه وتعالى قيض للإصالة الإسلامية والعربية من استطاع توظيفها في القضاء المبرم على النوايا الإماراتية، بمجرد خروجها من قمقم السرية إلى العلن عبر تسريبات البريد الإلكتروني لعراب الانسحاق الفكري الإماراتي في واشنطن.
لم تكن المواجهة بين التوجهين -اللذين كانا لا يزالان غائمين في التعبير عن جوهريهما- من المواجهات التي توصف بأنها سهلة أو بأنها صعبة، لكنها كانت مواجهة في وصف المكنون قبل توصيفه، والمعروف أن مثل هذه المواجهات لا تتطلب إلا مهارة الدفع بها إلى المبارزة العلنية الحاسمة، للقضاء على تناميها الصامت الخبيث.
وذلك من قبيل ما كانت قد شرعت فيه الإمارات من التعويل عليه في التسريب التدريجي لتأثيرات الترحيب بالميكروب اللاديني بطريقة غير مباشرة، كتضخيم الاختلافات الفكرية في المذاهب العقدية والكلامية الإسلامية من خلال مؤتمرات شبيهة بمؤتمر غروزني.
وهي بذلك تعتمد على استقصاء كل وسيلة كفيلة بتفجير الخلاف في النواة الصلبة، لإفقاد الكيان العقدي جوهره الضام (أو المؤلف) لأطرافه، ومن ثم تتساقط هذه الأطراف بطريقة تلقائية يتبعثر معها النفوذ الحضاري الواسع للدين الإسلامي.
ومن فضل الله أن سطوة الإمارات لم تكن قد تحسبت أصلا لوجود ما يمكن توصيفه بأنه تقنية التصويب الذكي، التي استحضرت الهدف وأبرزت معالمه في الميدان، قبل أن تصوّب عليه تسديداتها المباركة التي جعلت الإمارات تنصرف تماما عن المحاججة فيما كانت تستهدفه في قضية الهوية، وعلاقة هذا الاستهداف بمحاصرة قطر سببا.
ثم تقلصت إمكانية النجاح في تحقيق هذا الاستهداف المتجني مع صمود قطر، الذي استند في المقام الأول إلى تعويلها على الإفادة من اعتزازها الواثق بهويتها المستمسكة بالدين.
وفي هذه الأزمة بالذات؛ أتيح لقطر أن تكون هي حاملة راية فضح الانسحاق العلماني، وأن تقدم أقلامُ شعبها -في صمت الواثق- الدليلَ تلو الآخر على حرصها شعبا ودولة على التمسك بالهوية الحضارية التي تمتد في عمق التاريخ، دون أن تفرض رؤية فكرية أو فقهية على غيرها، ودون أن تتهم غيرها بالشطط أو الخروج عن الصواب، بَلْهَ الخروج من الملة على نحو ما اعتادت أن تفعله دول أخرى.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن القضية في هذا التنافس الخفي لم تكن توسطا ولا اعتدالا فحسب، على نحو ما تعوّد السياسيون وصف الرؤي قياسا على موقعها من مسطرة اليمين واليسار؛ وإنما كان الموقف القطري -في مجمله وتفاصيله- تعبيراً عن العدل الإسلامي نفسه، لا عن الاعتدال الفكري الناشئ عن تغليب قيم الإسلام.
ومع هذا؛ فإننا لا ننكر ولا يجوز لنا أن نتغاضى عن أن الإمارات بدأت دورة جديدة من دورات توظيف الخباثات الاستشراقية في تكدير صفو الصورة الإسلامية، من أجل خلق وسط متعكّر يسهل عليها الصيد فيه؛ ونحن لا نملك إلا أن ندعو الله أن ينتصر الحق بأهله فيما هو قادم كما انتصر فيما مضى.
الأزمة الثانية سأبدأ في تناولها من منظور بيولوجي، وهو حرص الكائنات الحية على بقاء الجنس والنوع، وهما هدفان جوهريان في تكوين الكائنات الحية عقليا ووجدانيا وسلوكيا، حتى إنه يمكن تفسير التزواج بين كل ذكر وأنثى بالرغبة في بقاء النوع أو بالقيام بالواجب تجاه بقاء النوع أو الجنس.
هذه البداية البيولوجية لفهم الأزمة الثانية -في طرحنا هذا- تحترم أي حرص إماراتي (أو غير إماراتي) على بقاء نظام الحكم أو سلطة العائلة الحاكمة، وتحترم بالتالي أي جهد في هذا السبيل، بل إنها لا تمانع في تفهم أن يصل احترام الحق إلى درجة تقديسه.
لكن جوهر المشكلة الفكرية -التي نمّتها الإمارات وتبنّتها- حتى جعلتها أزمة؛ كان قد تمركز حول إيمان فلسفي قديم بالقول إن الوجود المستحوذ لا يتحقق إلا بإفناء من يتطلع إلى أي قدر من الحلول أو الاتحاد، ومن ثم يُصبح إفناء الآخر هو الحل الوحيد.
وذلك بدلا مما تفترضه الروح العسكرية غير التوسعية من القول بأن الوجود الآمن على القمة لا يتحقق إلا بإضعاف المنافس وليس قتله، أو ما تنادي به القيم الرياضية العليا من القول بأن الوجود الآمن على القمة لا يتحقق إلا بوجود المنافس أولاً وبالتفوق المتجدد على المنافس.
ومع وجود سلسلة من الأخطاء العملية المستندة إلى بناء فلسفي جامد وقاصر؛ انخرطت الإمارات بنفسها في سياق معادٍ تماما للإسلام لا لشيء إلا لأن كل مسلم معرض لأن يكون مسلما ملتزما، وكل مسلم ملتزم معرض لأن يكون مسلما متدينا، وكل مسلم متدين مستعد أو قابل لأن يكون إخوانيا أو هو بالفعل مشروع إخواني، وكل إخواني هو مشروع لمسلم متطرف، وكل متطرف هو مشروع لإرهابي.
ومن ثم؛ فإن الحل الناجع هو حل المسألة من بدايتها بما يسمى تجفيف المنابع، وهو التعبير السحري الذي راق لوزراء الداخلية العرب حتى أصبح بمثابة السطر الأول في كتالوج عملهم السياسي والأمني معا.
ومع أن هذا المقال ليس مجالا لتفنيد الأخطاء الضخمة في بنية وتسلسل هذه المزاعم، التي كوّنت عقيدة احترازية عالية التكلفة والمخاطر؛ فإن السياق لا يمكن أن يمضي دون الإشارة السريعة إلى حقيقة أن الإرهاب "كمنتج نهائي" ليس حكرا على الإسلام، ولا هو من إنتاج معامله.
بل إن محصلة الإرهاب العالمية والتاريخية قد لا تثبت "للإرهاب الإسلامي" أكثر من 1% من إجمالي الإنتاج العالمي للإرهاب، وإن كان صيت "الإرهاب الإسلامي" يستحوذ على القمة المعنوية في المنتوجات الإرهابية من دون وجه حق.
وهكذا، وبعيدا عن الصواب والخطأ في اقتناعات الإمارات الجبرية؛ فإن مجال التحقق الفكري لنظريتها في إرهابية حماس أو الإخوان المسلمين -على سبيل المثال- يبقى في دائرة الفرضيات المتجنية، بنسبة المسؤولية إلى من هو غيرمسؤول أصلا.
ويقتضي منا الإنصاف أن نشير إلى أن الإمارات نفسها قد ألمحت بوضوح إلى أن سبب لجوئها إلى هذا التجني هو حرصها المشروع على الوقاية من انقلابات مدنية إسلامية محتملة، على غرار ما فهمته من أن مآلات ومسيرات ومصائر ثورات الربيع العربي في النهاية تجعلها تبدو وكأنها انقلابات إسلامية وديمقراطية في ذات الوقت.
في مثل هذه التيارات الجديدة أو الناشئة على غير توقع؛ فإن ألفباء العلم الاجتماعي يقول بأن السبيل الأمثل للتعامل مع هذه التوجهات -التي هي بطبيعتها واسعة الطيف- هو الاستقصاء، عن طريق فتح كل القنوات الممكنة للتلاقي والحوار مع كل الاتجاهات المتاحة والأفكار المطروحة، والبناء على فرص التعاون والتلاقي.
وهو جوهر الأسلوب الذي برعت فيه الولايات المتحدة الأميركية نفسها قبل أن تعرف طريقها إلى دونالد ترمب. وبفضل نجاحها المشهود والممتد والظاهر للعيان؛ فقد نهجت نهجها دول كثيرة كانت بينها قطر (والإمارات أيضا).
إلا أن الإمارات -في نوبة من نوبات التنكر للماضي وحكمته- قررت أن تنتهج نهجا مخالفا لما بنت مؤسساتها عليه، من حب الاستقصاء والانفتاح على كل الجبهات، وقد نهجت الإمارات هذا النهج الجديد لأسباب ليست كيميائية ولا فيزيقية ولا بيولوجية.
ولا يمكن وصفها إلا كما نفعل في الطب بأن نصنفها على أنها أسباب ألليرجية (أو حساسية)، أي أنها علاقة تنافر بين ذات وفكرة، أو تنافر بين ذات وظرف ما مكانيا كان أو زمانيا، أو بين ذات وذات.
ومن العجيب أن حساسية الإمارات تجاه ما أسمته الأدبيات المعاصرة "الاسلام السياسي" تحولت تلقائياً من نهج الاستقصاء إلى نهج الإقصاء، أو -بعبارة أكثر تفصيلا- تحولت من أسلوب الاستقصاء بفوائده المضمونة التي جربتها الإمارات نفسها في ميادين أخرى، إلى قرار الإقصاء بما يتطلبه من العداوة والتعدي والتجني.
بل بما تطور إليه فعلا في أزمة حصار قطر من لجوء الإمارات -مستعينة بملاءتها المالية- إلى محاولة لم تنجح، لفرض قسري لرؤيتها القاصرة على من لم ير فيها إلا العوار الفكري والخواء الإنساني.
ومن المدهش أن السباق القطري الإماراتي -منذ اندلاع ثورات الربيع العربي- قد تبلور على هذا النحو، الذي لم تكن الإمارات تتوقعه حين فضلت الإقصاء على الاستقصاء، واستهدفت التجني دون أن تحقق التجلي، الذي سرعان ما سار في طريق المنطق السليم ليكون من نصيب قطر.
أضف تعليقك