أكرم نصر الدين
لم تكن أغنية حمزة نمرة الجديدة عن الغربة ( داري يا قلبي) التي حصدت ١٣ مليون مشاهدة في عدة أيام إلا دليلا على تغريبة مصرية غير مسبوقة أشد وطأة من التغريبة الفلسطينية .
ولم تكن حالة الطفلة المصرية التي نادت فى وداع أبيها في المطار مختنقة بالبكاء ( قول للشغل بتاعك إن بنتك الصغيرة زعلانة )
لم تكن إلا حالة من ملايين الحالات لأطفال مثلها يعانون نفس المعاناة وأشد وآباء وأمهات يعانون وتتقطع قلوبهم في البيوت وفى المطارات على فراق فلذات أكبادهم . يعانون ويتألمون في صمت .
وقد بدأت تغريبة المصريين بعد استيلاء العسكر على الحكم وبعد أن كانت مصر محطة لهجرة الأوربيين والأفارقة ليعملوا بها حلاقين وسعاة وموظفي فنادق وخياطين لينقلب الحال ويخرج الملايين من المصريين في هجرات متتابعة .
ولا أعنى بذلك المغتربين سياسيا وإنما كل من اضطروا للخروج من البلد بحثا عن الرزق والعمل الذي لا يجدونه فى بلاهم فيضطرون للهجرة وترك الأهل والأولاد وتحمل المرار بحثا عن لقمة عيش وإن كانت مقرونة بذل الكفيل وبرودة الغربة ومرارة الفراق .
وقد بدأت هجرات المصريين من بلادهم بحجة البحث عن عمل فى السبعينات والثمانينات حيث كانت تغريبة المصريين فى العراق وليبيا وأكثر من ثمانية ملايين مصري كانوا يعانون غربتهم فى صمت فى زمن لا تليفونات ولا انترنت .
ثم عدد أكبر من ذلك فى تغريبة فى الأردن واليمن وليبيا فى التسعينات .
ثم انتقلت التغريبة في الألفية الجديدة إلى مختلف دول الخليج وحتى السودان ودول أفريقيا .
وبالتوازي مع كل ذلك أعداد بالملايين مهاجرة الى أوروبا فى غربة طويلة مريرة .
تغريبة على يد العسكر مثل التغريبة الفلسطينية على يد اليهود .
وإذا كان العالم كله تفهم وتعامل مع الفلسطينيين فى تغريبتهم بشيء من الشفقة والاستيعاب من شعوب العالم وحكوماته وخاصة العربية منها حيث كانت إهانة الفلسطيني تمثل إهانة لقضية المسلمين المقدسة . فإن التغريبة المصرية كانت أشد وطأة فقد جلب عدو الفلسطينيين الظاهر تعاطف العالم معهم أما نحن فقد كانت تغريبتنا على يد بنى جلدتنا وبلدنا وديننا فلم يتعامل معنا أحد باعتبارنا منكوبين مثل الفلسطينيين ولم يتعاطف معنا أحد .
وفى حين لم يجرؤ أحد على إهانة فلسطيني باعتباره يحارب عدو العرب والمسلمين . كانت إهانة المصريين عرضا مستمرا فى كل مطار وشارع ومدينة وعلى يد كل مواطن من أهل البلد يحلوا له إهانتهم فى غربتهم .
فدماؤهم مستباحة وكرامتهم مهدرة وحقوقهم منهوبة فى غربة فوق الغربة وضياع فوق الضياع .
وقد أصبحت الغربة وآلامها إحدى مفردات البيوت المصرية التى لا يعدم كل بيت فيها فراق ووداع ودموع على أب مفارق أو أخ مسافر لا يرجع إلا ليعود حيث لا عمل له ولا فرصة فى بلده وبين أهله .
وقد انعكس ذلك على المزاج المصرى حتى أصبحت أشهر الأغاني وأكثرها مبيعا وانتشارا هى أغاني الفراق والوداع والغربة .
من الطير المسافر في السبعينات الى سلامات وجاى فى إيه وغيرها فى الثمانينات والتسعينات إلى تذكرتي رايح جاى ومع السلامة ودارى يا قلبى .
والغريب أن العسكر وأنظمتهم وإعلامهم أصبحوا يتعاملون مع هذا الأمر أنه أمر طبيعي بل ويطالبون من لا يعجبه الحال بالرحيل وكأنها بلادهم وبلاد أولادهم دون باقى المصريين .
وقد ارتبط تهجير الناس من بلادهم طلبا للرزق بالأنظمة العسكرية وكانت تركيا أيضا مثالا واضحا على ذلك حيث كانوا لسنوات قليلة مضت هم أغلبية الحلاقين وعمال المطاعم فى دول الخليج وكان السفر إلى ألمانيا هو منتهى آمال التركي حتى من الله عليهم بزوال حكم العسكر فعادوا مكرمين إلى بلادهم . ما جعلهم إسلاميين وغير إسلاميين يقفون بصدورهم فى وجه الدبابات عند محاولة الانقلاب الأخير خوفا من عودة حكم العسكر البغيض .
فاللهم ائذن لمصر أن تعود لناسها وأبناءها دون تفرقة وائذن لأبناء مصر أن يعودوا إليها فيعملوا فيها ويعيشوا فيها ويموتوا فيها .
أضف تعليقك