• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: محمد محسوب

 
من مصادر القوة الحضارية للإسلام أنه نزع من قلوب أتباعه تقديس كل أحدٍ إلا الخالق.
والقدسية درجة أعلى من التقدير والاحترام والهيبة، بل جامعة لكل ذلك، ويزيد عليها العصمة والكمال وعدم جواز النقد، بل مقارعة النفس إن مالت إلى شيء من التشكك.
فالرسل والأنبياء يستمدون تقديرهم ووجوب اتباعهم من حقيقة أنهم حمَلة لرسالة الخالق إلى خلقه، وعدا ذلك فهم رجال يُولدون ويموتون، ويُخطئون فيُعاتبون ممن أرسلهم للعالمين رحمة.
ولذلك أصبح تقديس الأشخاص في عقيدة الإسلام نوعاً من الشرك، كما أن اعتقاد العصمة في الأولياء والصالحين انحراف بالإيمان عن حقيقته.
ومن ثمّ لا حاجة لرجال دين ولا متحدثين باسم الإسلام ولا وسطاء بين الله والبشر، ولا ضرورة لبناء ديني لاستيعاب الكهنوت، اكتفاء بأن تكون الأرض مسجداً، بل إن المسجد أصبح مبنى ككل مبنى، غير أنه مخصص لمباشرة العبادة، ومع ذلك يجتمع فيه الناس وتُجرى به المناقشات العامة، ويُهدم ويُعاد بناؤه بنفس موضعه أو موضع آخر دون أن يكون في ذلك انتهاك لمقدس.
وبعد ألف وأربعمائة عام من اكتمال هذه الدعوة، جاء عصر أصبح المسلمون فيه يتحرقون شوقاً لتقديس أولياء أو صالحين أو دعاة أو مساجد بعينها غير تلك التي يُشد إليها الرحال (الحرم المكي والمدني والأقصى).
لا يختلف في ذلك صوفية يقدسون وليّاً أو مقاماً، أو سلفية تقدس عالماً أو مذهباً، أو غيرهم يعظمون داعية أو مفكراً أو سياسياً.
وبالتالي أصبحت غالبية المتدينين - أياً كانت نوعية تدينه - على حرف، فهو يتقلب مع تقلُّب مَن يقدسه، فيتبنى المواقف السياسية أو الأخلاقية التي يتبناها شيخه الصوفي أو إمامه السلفي أو معلمه الديني.
كما أن الثقة في القيم والأفكار لا تصبح نابعة من فهمها وتقدير مضمونها بقدر ما تكون تابعة للثقة فيمن تصدر عنه، وهو ما يجعل الجرف كله ينهار إذا انهار المصدر.
فإذا اطّلع التابع على خطأ بشري للإمام أو الشيخ أو المعلم - وهو ككل البشر يُخطئ ويصيب - فإنه إما يُنكر أن هناك خطأ أو يبرره بتفسير منحرف، أو يتخلّى عن مجمل الفكرة، أو يخاصم التدين.
منطقي أن تسوء النتائج كلما كانت المقدمات متناقضة مع الفكرة، فإذا كان تقديس الأشخاص يقترب بالمسلم من الشرك، وإذا كان الأصل وفقاً لمفاهيم هذا الدين أن الناس خطّاءون وأن خيرهم من يُسارع بتوبة، وأن الله يحب من عباده من إذا أخطأوا تابوا، وأنهم لو لم يخطئوا لأبدل بهم غيرهم يخطئون فيتوب عليهم، تأكيداً على أن الخطأ جزء من الطبيعة البشرية، وأن التوبة جزء من الطبيعة الإسلامية.
فكيف بعد كل ذلك أن يعود الناس لتقديس ناس مثلهم، مهما بلغوا من ذكاء وإبهار في القول أو حتى العمل؟!
المسلم الذي يُدرك معالم دينه يعلم أن الأخطاء الكبيرة والصغيرة هي جزء من بنية النفس البشرية، ويعلم أن النفس لوّامة وأنها تنزع لارتكاب الخطأ، وأن الإنسان مكوّن من متناقضات تسمح له بمواجهة نفسه الشاردة بإرادة عاقلة، غير أن انتصار الإرادة لا يتحقق دائماً، وهو جزء من قدر الله لنا في حياتنا الدنيا.
بل إن الكمال الإنساني يكمن في حقيقة أن الإنسان ليس نموذجاً مطلقاً للخير، وإنما مكافح للاقتراب من نموذج الخير أو المؤمن الفاضل، فالوصول لتحقيق ذلك هو غاية، يُمثل المسعى والاقتراب منها نجاحاً محققاً.
وجانب إيجابي آخر في إسقاط روح التقديس التي أصبحت جزءاً من سمات هذا العصر، وهو أن التقديس يقيد قدرة الإنسان على المبادرة والإبداع من جهتين:
فلو ظنّ الشخص أن المطلوب منه أن يكون قدّيساً سيعمل كهؤلاء الذين عرضوا أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أحدهم يصوم الدهر وأن آخر يقوم الليل إلى غير ذلك، فما كان من النبي الأكرم إلا أن خالفهم بما يشبه المعاتبة.
فهو -صلى الله عليه وسلم- يدرك أن الإسلام لا يبتغي أن يغير الطبيعة البشرية بل يسعى لنفض الغبار عنها وإظهارها على حقيقتها بنزوعها للخير والشر، وإيقاظ إرادة الإنسان وهمّته لتغليب الخير.
وهذا الساعي إلى القداسة سيخاف السقوط في الخطأ، وسيكون عدم الإقدام في شؤون الدنيا خيراً له من الإقدام، وهو ما يمنعه من الإبداع والابتكار، وسيُفضل الاتباع على الابتداع، ليس في شؤون الدين بل في الدنيا؛ لأن طبيعته الإنسانية ستستبدل روح الخمول والرضا بالقليل، بما جُبلت عليه من توثّب ومغامرة وسعي للأفضل، ولأن في السعي احتمال الخطأ بينما في السكون بركة كما يظن.
أما مَن يقدّس غيره، فهو أشد خطراً على نفسه وعلى مجتمعه؛ لأنه يُسهم في تحويل المجتمع إلى مجموعات وطوائف يتبع كل منها شخصاً يُصبح هو مصدر المعرفة وأساس التمييز بين الخير والشر. وهو ما تعكسه تتبع الناس للفتاوى دون البحث عن إدراك الجوهر أو تفهّم الواقع أو الاستفسار عن كيفية استخلاص الحكم من دليله.
اعتقد البعض أن التحول الكبير الذي حققه المسلمون الأوائل رغم قلتهم ومحدودية إمكاناتهم مقارنة بالأمم التي كانت تجاورهم، بأنه "نصر الله" بلا أسباب ولا عناصر للنصر. والمقصود هنا هو النصر الحضاري وليس العسكري فقط.
والحقيقة أن الشعب العربي الهائم في الصحراء، الممزَّق بين قبائل وبطون، الهامشي في منظومة الحضارة، هو نفسه الذي قاد الحضارة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأقل من أربعين سنة.
لم يتغير الشعب إنما اكتشف ملكاته وقدراته، فانطلق في الدنيا لا تُقيده تقاليد موروثة ولا يخشى الخطأ - لا لأنه لا يخطئ وإنما لأنه أدرك أن الخطأ تقابله المغفرة، وأنه ليس سبباً للعار بل للتوبة - وأنه لا يحمل ذنب آبائه ولا يفاخر بمجد أجداده، إنما يصنع بيديه ما يُفاخر به.
نظرة على حال أُمتنا تكفي لنُدرك أننا أقرب لحياة أجدادنا الذين سكنوا الجزيرة العربية قبل أن يكتشفوا سر بناء الحضارات.

أضف تعليقك