في مذكراتها "رقيبة سينما - 30 عاما"، الصادرة مطلع الثمانينات عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، تقول اعتدال ممتاز، مديرة الرقابة على المصنفات الفنية في أواخر الستينيات، إن تعليمات سياسية صدرت للجهاز الذي ترأسته، عقب هزيمة 1967، "للسماح بمشاهد الجنس والمخدرات في الأفلام، وعدم حذف أي مشهد منها مهما بلغت درجة جرأته، في محاولة لإلهاء الناس عن الهزيمة وإحباطاتها."
شيء من هذا يحدث في بر مصر حاليا، ومنذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو. فـ"الكاتالوج" واحد منذ عسكر تموز/ يوليو 1952 وحتى عسكر تموز/ يوليو 2013، ذرية بعضها من بعض.
فبعد موجة من الأعمال الدرامية التي تخصصت في هدم الصورة الإيجابية للتيار الإسلامي، وخاصة جماعة الإخوان، جاءت الموجة التالية لهدم القيم والثوابت عموما، وزيادة جرعات ومشاهد الجنس والمخدرات في الأفلام والمسلسلات.
لم يقتصر الأمر على الأعمال الدرامية، ولكنه شمل المجال الإعلامي أيضا. فبعد أن شهدت مصر طفرة إعلامية كبيرة عقب ثورة 25 يناير 2011، تمتعت بأعلى سقف للنقد والمعارضة، أصبح التوجه العام الآن هو التركيز على إعلام "السفاهة والهيافة" مع نزع الجرعات السياسية، بهدف تبريد الوضع، وإشغال المواطنين بهذه القضايا "الهايفة" كما كان الوضع عقب هزيمة حزيران/ يونيو 1967. ومن أمثلة ذلك شغل الراي العام بقضية مدير قناة حكومية هدد باغتصاب صحفية، واعترف بجرائم جنسية، وشغل الناس بملابس الراقصة الروسية جوهرة، ونشر صور خاصة لسياسيين معارضين، ونشر فضائج جنسية لبعضهم، ناهيك عن اعتياد نشر وبث ما يخدش الحياء العام (لفظا أو صورا) في برامج تليفزيونية شهيرة. ويكتمل مشهد الإلهاء بتدخل صوري لبعض الهيئات الناظمة للعمل الإعلامي، مثل المجلس الأعلى للإعلام والهيئة الوطنية للإعلام أو نقابتي الإعلاميين والصحفيين، فتوجه إنذارا لهذه المذيعة، أو توقف تلك مؤقتا عن العمل.. الخ، في محاولة لذر الرماد في العيون، وإخفاء الجريمة الأصلية للنظام الحاكم نفسه الذي قتل حرية الصحافة والإعلام، وقتل الحياة السياسية، وبالتالي منع أي معالجات جدية للقضايا العامة، وسمح بنشر تلك"الهيافة"، واحتفظ لنفسه بحق التدخل لضبط جرعة الهيافة المسموح بها بحيث لا تؤثر سلبا عليه، كما أنه يستغل هذا التدخل في تحسين صورته بحسبانه حامي القيم، وهو أمر لم يعد عاقل يصدقه.
فارق كبير بين النصوص الدستورية والقانونية التي تحمي حرية واستقلال وحياد الصحافة والإعلام، ودورهما في التعبير عن كل الاتجاهات السياسية، وضمان تكافؤ الفرص في مخاطبة الراي العام، ودورهما في تهيئة المناخ الحر لنمو المجتمع وارتقائه بالمعرفة المستنيرة، وبالإسهام في الاهتداء إلى الحلول الأفضل في كل ما يتعلق بمصالح الوطن وصالح المواطنين، وبين الواقع العملي الذي "دهس" حرية الصحافة تماما، وحولها إلى مجرد أبواق دعائية للنظام، كما سمح للفطريات والطحالب بالنمو والتكاثر فيها، عوضا عن الجدية والاحترام.
فالمادة 72 من الدستور المعمول به حاليا تقول "تلتزم الدولة بضمان استقلال المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام المملوكة لها، بما يكفل حيادها، وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية، ويضمن المساواة وتكافؤ الفرص في مخاطبة الرأي العام"".
والمادة الثالثة من قانون سلطة الصحافة الحالي تقول "تؤدي الصحافة رسالتها بحرية وباستقلال، وتستهدف تهيئة المناخ الحر لنمو المجتمع وارتقائه بالمعرفة المستنيرة، وبالإسهام في الاهتداء إلى الحلول الأفضل في كل ما يتعلق بمصالح الوطن وصالح المواطنين.
والمادة الثالثة من قانون التنظيم المؤسسي، الصادر حديثا، تحدد وظيفة المجلس الأعلى للإعلام في ضمان وحماية حرية الصحافة والإعلام، في إطار من المنافسة الحرة، وخاصة حماية حق المواطن في التمتع بإعلام وصحافة حرة نزيهة وعلى قدر رفيع من المهنية، وفق معايير الجودة الدولية، وبما يتوافق مع الهوية الثقافية المصرية.
الواقع الإعلامي داخل مصر حاليا لا يسمح بظهور الاصوات الحرة والمستقلة، وقد بدأ نظام 3 تموز/ يوليو عهده بغلق القنوات المعارضة له في أيامه الأولى، ثم تبع ذلك بمنع ظهور الأصوات التي حاولت إبراز بعض الاستقلال، رغم أنها كانت داعمة بالأساس لمظاهرات 30 حزيران/ يونيو، وهتف هاتفها "اللهم بلغنا 30 يونيو"، وحين بلغها وجد نفسه مبعدا عن برنامجه الشهير، فلم يجد بدا من مغادرة مصر للعمل بإحدى القنوات الخارجية، في حين رضيت أصوات أخرى بالانزواء داخل مصر، ولم يسمح لها حتى بتقديم برامج اجتماعية بعيدة عن السياسة.
صحيح أن النظام أعاد وجوها سبق أن أبعدها عن الشاشات مثل إبراهيم عيسى ومحمود سعد، لكن أغلب الظن أنها عودة مشروطة بشروط قاسية، على رأسها ضرورة دعم النظام، وتجنب أي نقد له، والتخفيف كثيرا من الجرعة السياسية، والتركيز على قضايا تافهة كجزء من التوجه العام للمرحلة.
تغيب السياسة تدريجيا عن الإعلام المصري لتحل محلها موضوعات تتعلق بالجنس والمخدرات، والخناقات الزوجية، وبرامج الطبخ، والرياضة، والترفيه، وذلك كجزء من قتل السياسة في مصر عموما، واستكمال منظومة الحكم العسكري في أبشع صوره، وهو ما يتطلب تضافر جهود كل المخلصين في مصر للخلاص سريعا من هذا النظام الذي انحدر بمصر، لتنافس كوريا الشمالية أوموزمبيق.
أضف تعليقك