منذ يومين، نشر الشاب الواعد محمود الغندور مقطعا جديدا من مقاطعه المصورة، ضمن سلسلة برنامجه البديع: "الدحّيح"، تناول فيه قضية الأوراق الثبوتية، وعرّج فيه على جوازات السفر، وتاريخها وأنواعها ومزاياها، بحسب البلد الذي يصدرها، ونقل خلال ذلك، كلمة كتبها أديب نمساوي، عن "عالَم الأمس"، يصوّر فيها تحوّل العالم من حرية التنقل الكاملة قبل عام 1914، إلى عالم جوازات السفر، والحدود والسدود والتأشيرات والأختام بدءا من تلك السنة، وانقسام الناس بين من يستطيع أن يدخل بجوازه دولا لم يسمع بها يوما، وبين من لا يدخله جوازه إلا قلة من الدول التي تشاركه الضعف والهوان والعجز الاقتصادي في الغالب.
ولأنّ القارئ/المشاهد يرى كلّ شيء بعين واقعه، خطر لي فورا نكبة الغزيين في قضية السفر، فالجواز الفلسطيني الذي يحملونه ليس جوازا بالمعنى الحقيقي، إذ كُتب عليه بالعربية وبالإنجليزية، بخط كبير: "جواز سفر"، لكنهم كتبوا تحته بخط صغير، وبالإنجليزية فقط (Travel Document)، أي: "وثيقة سفر"، فلا هو جواز مكتمل، ولا هو وثيقة سفر اضطرارية، إنما هو هجين لا يُعرف له وصف مُحدد، وكم مرّة وقف الفلسطيني وقفة العجز بين أيدي موظفي السفارات العابسين، يشرحُ لهم وضعية جوازه الملتبسة، والقضيّة الفلسطينية برمّتها على هامش الموضوع.
لكنّ مشكلة الغزي ليست مجرد مشكلة جوازه الفلسطيني فحسب، الذي يشاركه فيه ابن الضفّة أيضا، إذا عسُر عليه استخراج جواز سفر أردني، إنّما معضلتُه الكبرى هي في الكارثة المسمّاة "معبر رفح"! بوابة الحصار والإذلال والإهانة والقتل البطيء! المنفذُ الوحيدُ الذي قضت به لعنتا الاحتلال والجغرافيا على أهل غزة، فليس لهم سبيل غيره للخروج من "سجن غزة"، أو العودة إليه.
طيلة عام 2017 لم يفتح النظام المصري معبر رفح سوى 21 يوما، أخرج فيها بضع مئات، كان المعبرُ يخرج مثلهم في يوم واحد فقط قبل الانقلاب، ومنذ مطلع العام، لم يفتحه غير يوم ونصف يوم، فتحه زورا وكذبا لا حقيقة! فما عرف أهلُ غزة، منذ خلقها الله، حبسا وحصارا كالذي يحاصرها به السيسي اليوم، ولا عرفوا عذابا في الدخول إلى غزة والخروج منها كالذي يرونه على أيدي جنوده في الأيام المعدودة التي يُفتح فيها المعبر، فلعنة معبر رفح تلاحقُ الغزيّ مفتوحا ومغلقا، حتى صار الداخلُ إلى غزة، يحلفُ بالله لو قُطع إربا لا يعودُ يخرج منها، ويحلفُ الخارجُ مثل يمينه، لهول ما يرى من التنكيل في المعبر وعلى الطريق منه وإليه.
نعم، طريقُ رفح-القاهرة، التي كانت تُقطعُ في ثلاث ساعات أو أربع، منذ يناير 2011 حتى يوم الانقلاب، صارت تستغرق أياما، بسبب حظر التجوّل، والكمائنِ على الطريق، والتنكيل الذي يمارسه أكثرُ عناصر الأمن والشرطة تجاه كل غزّي، لا فرق بين رجل ولا امرأة ولا طفل، مع تفتيش لأتفه الأشياء، لا يخلو من سرقة لما يُعجبُ هؤلاء البلطجيّة من متاع أو هدايا يحملُها الرائحُ أو الغادي.
بلغ فجُور النظام المصريّ مداه في آخر مرّة فُـتح فيها المعبر، إذ أعلن عن فتحه ثلاثة أيام، وجعل اليوم الأول في اتجاه واحد للعائدين إلى غزة، جاء الإعلان فجأة وسط النهار، دون تنبيه أو إبلاغ للجانب الفلسطينيّ، حتى يُبلغ بدوره عشرات الآلاف الذين ينتظرون أخبار المعبر، فتح المعبرُ نصف نهار للعائدين، ثم يوما واحدا في الاتجاهين، ثم ساعات قليلة حتى أعلن عن إغلاقه قبل ظهر اليوم الثالث دون إبداء الأسباب، لتكون حقيقة الأيام الثلاثة المعلن عنها يوما واحدا أو يوما ونصف.
تسببت هذه التصرفات الرعناء، أي: الإعلان المفاجئ، ثم الإغلاق قبل الموعد المعلن عنه، في كارثة إنسانيّة كبيرة، لا يدري عنها كثير، ولا يكاد يتكلم عنها أحد! حيثُ علق معظم العائدين إلى غزة، في العريش ورفح المصرية، في وقت تشهد فيه سيناء حملة أمنية وعسكرية كبيرة ينفذها الجيش المصريّ تزامنا مع فتح المعبر حتى الآن.
في اللحظة التي أعلن فيها النظام فجأة عن فتح معبر رفح، سارع العالقون في أدنى الأرض وأقصاها إلى حجز تذاكرهم نحو مطار القاهرة، حيث يُمنعون من صعود الطائرات نحوه إلا في حال فتح المعبر، فطاروا إلى القاهرة في اليوم الثاني لفتح المعبر (اليوم الحقيقي والوحيد)، على أمل أن يعودوا إلى غزة في اليوم الثالث (الوحيد المتاح أمامهم)، فما أن وصلوا رفح، حتى قيل لهم: عودوا! فعلقوا بالمئات في رفح المصرية والعريش، فانقطعت عنهم الاتصالات، بسبب تعطل الشبكات في سيناء، وبات معظمهم في بيوت لا يعرفون أهلها، وفي ظروف لا يعلمها إلا الله.
أسوأ ما في الأمر أنه لم يبذل جهد كبير في توضيح الفضيحة التي جرت، ولم تكن هناك محاولة جدية من الجهات الرسمية لحلّ أزمة هؤلاء العالقين، ولا يزال أكثرهم حتى اللحظة ينتظر الفرج من الله، لا يدري به أحد، وفيهم من فيهم من ذوي الظروف الإنسانية الصعبة، ممن خرج لعلاج أو ضرورة ملحّة، وعانى 50 يوما من إغلاق المعبر، حتى فُتح هذا الفتحَ الكاذب الآثم، فصارت أزمتُه أكبر، إذ علق في سيناء، حيثُ القصف والمعارك والعمليات، وفوق ذلك لم يكن عنده أدنى ترتيب أو تخطيط، ولا له أهل ولا معارف!
كل ما يفعله نظام مصر الحالي، تجاه غزة وأهلها من الظلم والتنكيل، ليس له تفسير إلا الامتثال للأمر الصهيوني، وهو ما عبّر عنه ليبرمان بوقاحة في تصريحات علنية، لم تلق من الجانب المصري ردا ولا استنكارا، قال فيها: "إن النظام المصري ينسق معهم في كثير من القضايا، منها معبر رفح: كيف ومتى ولمن يُفتح"! هكذا قال، وهو والله منطقي جدا، ولا تفسير لما يجري غيره، هذا معبر يديره ليبرمان!
أضف تعليقك