قال: "جوون"، والصحيح "جول"، وهي كلمة إنجليزية، نسبة للعالم "جيمس جول"، بيد أن عبد الفتاح السيسي نطقها بحسب العامية المصرية، وفي اليوم التالي تحول "الجوون"، إلى "هدف" في الصحف السيارة، التي قامت بتعريب المصطلح، وتمددت تصريحات السيسي وعبارته البليغة على ثمانية أعمدة في صدر الصفحة الأولى من جريدة "الأهرام" وكانت على هذا النحو: "السيسي: ليس لدينا ما نخفيه في ملف الغاز. مصر أحزرت هدفاً وتحولت إلى مركز إقليمي للطاقة"!
وإذا كانت البرية قد حارت في فهم الشبكة التي أحرزت فيها مصر هدفها، فإن المتابع للأذرع الإعلامية للانقلاب العسكري، سيقف بسهولة على أن السيسي كان يهمز ويلمز في الرئيس التركي. فعمرو أديب قال في اليوم السابق للإعلان عن "الجوون"، أن صفقة استيراد الغاز مثلت صفعة على "قفا أردوغان". وبعد ساعات من الإعلان عن "الجوون الجامد أوي"، بحسب وصف القائل، كان الذراع الإعلامي أحمد موسى يقول إن زعيمه المفدى (يقصد "أردوغان") "عيّط"، أي بكى، بعد إعلان "مرشح الضرورة" عبد الفتاح السيسي أن مصر "جابت جوون جامد أوي"!
لا بأس، إن سعد السيسي وأذرعه ولجانه بخطوة استيراد الغاز من إسرائيل، بقيمة 15 مليار دولار على عشر سنوات، حد أن تثير سعادته دهشة مدير شعبة اتحاد المنقبين عن الغاز بإسرائيل؛ الذي قال إنه لم يخطر بباله أن يبدي زعيم عربي كل هذا الفرح لمجرد أن وقع صفقة لشراء الغاز من اسرائيل، وأردف: "هذا انتصار كبير"!
فالبأس الشديد أن يرى عبد الفتاح السيسي في هذه الصفقة أنها إنجاز يستحق الاحتفاء به، ويعتبرها "جوون" لمصر، مع أنها "جوون" أحرزته دولة الكيان الصهيوني، مما دفع برئيس الحكومة أن يخرج سعيداً، وهو يصف هذا اليوم الذي وقعت فيه الصفقة بأنه يوم تاريخي وأنه عيد لإسرائيل. وإذا أحسنا الظن بالسيسي، فإن فرحته تأتي اتساقاً مع المثل الشعبي: "افرح لجارك"!، ذلك بأن إسرائيل هي المستفيد الوحيد (بحسب الظاهر من الأوراق) من هذه الصفقة؛ فهى قامت ببيع الغاز المصري "المسروق من الحقول المصرية" وبأكثر من الأسعار العالمية بدولار، وهي التي سبق لها أن اشترت الغاز المصري بأسعار أقل من الأسعار العالمية بأكثر من دولار، بل وأقل من قيمة استخراجه في زمن الرئيس المخلوع، ليأتي قائد الانقلاب العسكري فيتفوق على سيده مبارك، ويجعل من مهامه الوظيفية: تحقيق الأمن للإسرائيليين، وإنعاش الاقتصاد الإسرائيلي، فكانت الفرحة العارمة لرئيس الحكومة الإسرائيلية، والذي ذكرنا في سعادته بسعادة رئيس الدولة العبرية عقب هزيمة حزيران/ يونيو 1967، عندما وقف ليقول إن ما حدث يفوق أكثر أحلامه جنوناً.. لقد اصطدمنا بالجبهة المصرية، فإذا هو صدام بين مطارق من حديد بأوان من فخار!
وسعادة السيسي التي أدهشت المسؤول الإسرائيلي ووصفها بـ"الانتصار الكبير"، هي احتفال بانتصار الإسرائيليين، بحسب الظاهر من الأوراق كما قلنا، لكن التعمق فيها لا بد أن يكشف عن مزيد من المستفيدين بهذه "الصفقة الحرام" كما كانت "صفقة حسين سالم"، إذ لم تقتصر الاستفادة عليه، لكنها شملت مبارك ونجليه، كما شملت آخرين لا تعلمونهم الله يعلمهم!
عندما قال السيسي: "ليس لدينا ما نخفيه في صفقة الغاز"، كان كمن يتحسس بطحته، فالشبهات أثيرت حول ما حدث، فقد جرى إصدار قانون تنظيم أنشطة سوق الغاز، المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ أول آب/ أغسطس 2017، من أجل هذه الصفقة، وبما يتيح للقطاع الخاص أن يقوم باستيراد الغاز، ثم صدرت اللائحة التنفيذية للقانون قبل أيام، وهي تنظم عملية تأسيس شركات القطاع الخاص التي تقوم بهذا النشاط الذي كان محظوراً عليه من قبل، لنفاجأ بأن "الشركة المحظوظة" حصلت على الموافقة في لمح البصر، وفي اليوم التالي كان توقيعها للصفقة إياها، التي لم تعلنها مصر، فمن أعلنها هو "نتنياهو"!
وإذا بدا السيسي في خطابه الخاص بإحراز "الجوون" مبرراً ما جرى بأنه تسهيل للقطاع الخاص في القيام بمهمة استيراد الغاز، لأن الغاز المصري أغلى، فإنه هنا يكون في حكم المريب الذي يقول خذوني. فلم يُعرف عنه اهتمام بالقطاع الخاص، أو حتى القطاع العام، فقد مكن الجيش من السيطرة على الاقتصاد المصري. وقد كنا نتفهم هذا لو كان السماح باستيراد الأرخص في كل المجالات، فمصر مثلاً تفرض حماية على صناعة السيارات، مع أنه لا توجد صناعة للسيارات فيها، فهي حماية مقررة للفشل، وبعد أكثر من خمسين سنة على هذا التجربة الفاشلة، فإن ما تقوم به شركة النصر للسيارات ليس صناعة ولكنه "تجميع"، إلا أن الحكومة تفرض جمارك مبالغ فيها على استيراد السيارات، وأكبر في قيمتها من كل الجمارك المفروضة في كل العالم، والهدف هو حماية الصناعة الوطنية، التي لا وجود لها!
وإذا صدقنا أن ما جرى كان ايمانا بالقطاع الخاص، فلماذا هذه الشركة بالذات؟ ولماذا هذه الشركة تستورد من إسرائيل بالذات؟ ولماذا يكون السعر أعلى من الأسعار العالمية، ما دام الهدف هو الاستثمار؟ وهو استثمار مرتبط بالسعر العالمي للغاز، لا سيما وأن المعلن هو تصدير الغاز بعد تسييله. ولماذا لم تسيله إسرائيل؟ هل المصريون أكثر "شطارة" من الإسرائيليين في التجارة؟.. ولماذا تصدر مصر غازها خاماً ما دامت تملك البنية اللازمة لتسييله؟!
إن القول بأن ليس لديه ما يخفيه في صفقة الغاز، ليس صحيحاً، وإلا فلماذا لم يتم إعلان مؤسسي هذه الشركة، لا سيما وأن صاحبها المعلن ليس فوق مستوى الشبهات الوطنية، وقد كان الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام، المدان بحكم قضائي مصري، قبل أن يفرج عنه مبارك، كان يعمل معه! فمن هم الشركاء الآخرون في الشركة صاحبة الصفقة؟!
لقد كان التناقض واضحاً في كلام السيسي، وهو يتحدث عن أن الدولة المصرية أحزرت هدفاً، وفي الوقت ذاته يتحدث عن أن الصفقة قامت بها شركة لا شأن للدولة بها وتتبع القطاع الخاص، والعائدات - بالتالي - ستعود للشركاء، فماذا استفاد المصريون من الموضوع؟!
نحن ندرك سر سعادة السيسي، التي أدهشت المسؤول الإسرائيلي عن التنقيب، فقد أدخل السعادة على المواطن الإسرائيلي وهذا من مهامه الوظيفية، والرضى الإسرائيلي عنه هو الذي يجعله يبطش بكل معارضيه، بدون اعتراض غربي، أو تململ من البيت الأبيض، وقد تكون سعادته مضاعفة إذا عرفنا أسماء الشركاء، لكن المؤكد أن مصر لم تستفد ولم تخلو من النجاسة، الوطنية في صفقة التطبيع، المنهي عنه وطنيا.
إن من فرط في التراب الوطني، من أجل إسرائيل، لا يستغرب منه تصرف كهذا، فليس بعد التفريط ذنب!
أضف تعليقك