"وَقَدِ اشْتَدَّ عَطَشُ الْحُسَيْنِ، فَحَاوَلَ أَنْ يَصِلَ إلى أن يشرب من ماء الفرات فما قدر، بل مانعوه عنه، فخلص إلى شَربة منه، فرماه رجل يقال له: (حصين بن تميم) بِسَهْمٍ فِي حَنَكِهِ فَأَثْبَتَهُ، فَانْتَزَعَهُ الْحُسَيْنُ مِنْ حَنَكِهِ فَفَارَ الدَّمُ فَتَلَقَّاهُ بِيَدَيْهِ ثُمَّ رَفَعَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ وَهُمَا مَمْلُوءَتَانِ دَمًا، ثُمَّ رَمَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهمّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا، وَلَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْهُمْ أحدًا. ودعا عليهم دعاء بليغًا".
ابن كثير، البداية والنهاية
منذ اشتعلت ثورة أهل الشام ضدّ الطاغية السفاح ابن الطاغية السفاح، تحضرُني أرواحُ آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. كلما طالعتُ أخبار الثائرين في سورية، أو نظرتُ في صورهم، أو سمعتُ هتافاتهم، أرى في ثناياها سطورًا مما سجلتهُ كتب التاريخ عن مقتلة آل محمد عليه الصلاة والسلام، وأجدُ بين هؤلاء وأولئك من الصلة معاني يعجز القلمُ عن نقلها، وينعقد اللسان.
كل ثائرٍ له بالحسين وصحبه صلة، وللثوار على سفاح الشام به صلاتٌ كثيرة، أولها اختلال ميزان القوة، فقد واجه الحُسين في قلّةٍ من أهله وأنصاره جيشًا جرّارًا لا قبل لهم به، تكادُ تكونُ فرصتهم أمامه معدومة، وأهل الشام يواجهون بأقل القليل ترسانةً بُنيت من أموالهم وقوت عيالهم لعقود، مدعومةً من قوة إقليمية كُبرى، وأخرى عُظمى أشدّ بأسًا وظلمًا.
وكلاهما -الحسين والشعبُ السوريّ- عانى أشدّ أنواع الخذلان، وُعدوا بالحشد والدعم والنُّصرة، ثمّ غُدر بهم وتُخلّي عنهم، فكم كُتبت للحسين من كُتبٍ أن اخرج وأقبل، وفي انتظارك الجيوش الجرارة، والجحافل الصادقة، فلما أقبل تخاذلوا عنه، وأسلموه لعدوّه، فما أشبه ذلك بصنيع كثيرٍ من القوى الإقليمية؛ إذ مدّت للثوار أيدي العبث والتآمر، في صورة الدعم والمؤازرة، ثمّ خذلتهم وتركتهم يواجهون مصيرهم على يد الآثم المجنون.
ما أشبه أهل الغوطة اليوم بآل محمّد يوم عاشوراء، إذ يُقتلون عطاشًا جائعين، محصورين ممنوعين من الطعام والماء، ومن أدنى متطلبات العيش، فهؤلاء المقتولون تحت الحصار، ثائرين على الظلم، هم أحقُّ الناس بالحسين وأولاهم بالانتساب إليه، وأجدرهم أن يُعدوا خلفاءه وحاملي رايته.
ما أشبه أهل الغوطة بالحسين، وهو يختارُ الموت على الذلّة والإذعان للباطل، ويُؤثر هلاكه ومعظم أهله على التسليم للظلمة، يخوض المعركة الخاسرة، ويفوز بالعزة وشرف المقاتل، وهم اليوم على طريقه، يقبضون على جمرة الثورة، ويرون أنفسهم أهمّ قلاعها وآخر آمالها، وبقية فرصها في واقعٍ يمهّد للحرية أو يقرّب منها.
ما أشبههم به وهم يَلقونَ اللوم والتهمة، ويُحمّلون المسؤولية عن سفك دمائهم، فقد لاموا الحُسين على خروجه، ولاموه على عدم تسليمه، وحمّلوه وزر دمه، وهكذا يفعلُ كثيرون اليوم بأهل الشام، ويزيدون على قتلة ذلك الزمان إظهار الفرحة والشماتة، والهُزء بصور الدماء والأشلاء، حتى أضحوا وحوشًا بألسنةٍ وأقلام، تزهو بـ"براميل الرحمة"، وتفتخرُ بسياسة "الأرض المحروقة".
كم كشف الذي جرى على سورية من وجوه، وكم أظهر من قُبحٍ وجنون، ذلك الدكتاتور السفاح يقاتل عن روحه وعن سلطته وثروته ومكتسباته، فما بالُ كثيرٍ ممن بينهم وبينه حدود وسدود، وثاراتٌ تاريخية ودماء، يأبون إلا مشاركته الإثم والعار، ويرون في "التشبيح" له نصرةً لفلسطين والمقاومة، هل تُنصرُ فلسطين بقتل الأطفال! حاشا فلسطين والله!
في مذبحة الغوطة الأخيرة، كانت أصواتُ "التشبيح" أعلى، ومفرداته أقبح وأسفل، وما ذلك إلا لأنّ كثيرًا من الناس هُم "مع الواقف"، يميلون حيثُ الريح تميل، وقد رأوا الثورة في تراجعٍ وانحسار، فأظهر من كان يُخفي تشبيحه مكنون نفسه، وازداد المُستعلنون بتشبيحهم فجورًا، فمن كان خجلًا صار وقحًا، ومن كان وقحًا أفحش ولجّ في غيّه.
أما نحنُ -معشر مؤيدي الثورة- فما أوقفنا مع الثورة إلا ضعفُها، ولا حمّسنا لها إلا دمُ صغارها المسفوح، وإننا كلما ازداد الظالم الآثم إجرامًا وطغيانًا، والثورةُ خذلانًا وألمًا وتراجعًا، صرنا مع الثورة أثبت موقفًا، وأحزمَ تأييدًا، وأشدّ عداءً للقاتل ومن معه، فلسنا مشجعي فريقٍ رياضيّ، متى طاشت كفّتُه مزّقنا القُمصان، وشتمنا المدرّب واللاعبين! بل نحنُ مع الثورة، ظالمةً ومظلومة، منتصرةً ومهزومة!
أقبحُ من رأيتُ من الشبيحة، هم هؤلاء الذين ينتسبون لفلسطين، وهم قلّةٌ في شعبٍ عرف معنى هدم البيوت على رؤوس أصحابها، وخبر جيّدًا استهداف "الحاضنة الشعبية"! لا يمكن لشعبٍ سمّى عدوّه "قاتل الأطفال" أن يؤيّد أشرس قاتل أطفالٍ في التاريخ، لأنه يتمسح بقضيتهم، ويتخذها وسيلةً لتطهير يديه من دماء شعبه المظلوم، ولعلّ من يتتبّع الناجين من مجازر العدوّ الصهيونيّ -لمن يعرف بعضهم- يراهم أكثر الناس تأثّرًا بما أصاب أهل الغوطة، وأشدّهم حُزنًا عليهم، و"لا يعرفُ العشق إلا من يُكابده"!
لم يزل مؤيدو المجرم السفاح قلّة منتبذة محتقرة، لم يتكاثروا فجأة، ولا اتسخت أرواحهم بغتة، إنّما أغرتهم الظروف، فانكشفوا وعلت أصواتهم، حتى ينالوا نصيبهم من الخزي والإثم والفضيحة، ولعلّ الله يريهم في القاتل الذي باعوا لأجله عقولهم وضمائرهم ما يعيدهم إلى صوابهم أو يُخرسهم، وما هو عليه بعزيز.
أما أهل الغوطة، فحسبهم هذه الصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم وآله الطيبين الطاهرين الثائرين الشهداء، ولعلّ الله يحدثُ بعد ذلك أمرًا، وينصرهم من حيث لا يحتسبون، والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أضف تعليقك