إنها فجيعة متتالية الفصول، ومأساة عنقودية، وليست موسمية، ولا وليدة حدث طارئ سرعان ما يمضي وتتعافى جراحه، وهي سيول من دماء، حقيقةً لا مجازاً، كما جاء في كلمات أنشودة المنشد السوري محمد أبو راتب في رائعته القديمة التي تصف حال سوريا في ثمانينات القرن الماضي أيام حكم السفاح حافظ الأسد، قالت الأنشودة: "دمشق في القلب.. قلبي في هوى حلب، دمي حماةُ ونوح الجسر أغنيتي، سوريةُ اليومَ.. بركانٌ سيولُ دم، شامُ الرسول منارٌ نارُ ملحمتي"، هكذا كان حال سوريا يومها، وهكذا هو اليوم، وسيول الدم قديمها وحديثها صارت خيولاً من لحم وعظم وصهيل، أدمى حوافرها المسير الطويل، لكنها ظلت تبصر طريقاً وحيداً في آخره خلاصها، بعد أن استوى عيشها الذليل مع الموت عقوداً قبل أن تجدد ثورتها.
لكنها اليوم لا تشكو مهارة الجزار في إخفاء جريمته ودفن ضحاياه دونما توثيق، فعدسات الإعلام تنقل يوميات الموت والدمار في سوريا، وإحصائيات المنظمات الحقوقية تتوالى في توثيق الفجائع، وما يزال وسم (الغوطة_الشرقية) يدهم عيوننا كلما تصفحنا لائحة الأكثر تداولاً على موقع تويتر. لكن مجازر الغوطة صارت نسخة مكررة عن أخرى سابقة فيها، وشبيهات لها في عموم سوريا، وأخرى تتقاطع معها في مصر واليمن وليبيا وفلسطين، ومعروف أنه حين تتكرر المشاهد آلاف المرات تصبح مألوفة، ثم يغدو مطلوباً أن يبلغ عدد الضحايا مئات أو آلافا حتى يكون ممكناً استنطاق صوت بالإدانة، فقتل عشرة أو عشرين من السوريين هو خبر عادي في فضاء الإعلام العربي، ولا يصبح جالباً للانتباه إلا إن تخطى حاجز المئة في وجبة القصف الواحدة، وحاجز الألف خلال أسبوع.
لم تعد هنالك مساحة فريدة في جرحها، رغم أن كل قطرة دم بريئة هي لعنة في جبين سافكيها والساكتين عنها، لكن الغوطة الدمشقية هي المعادل الموضوعي لنا جميعا، للإنسان العربي المطعون في كبريائه ونخوته، لحالة عجزه عن الانتصار للمستضعفين، لتيه المعاني في قلبه ووعيه، لتمزق أوجاعه وتناثر عاطفة تضامنه على بقاع كثيرة، لضيقه بدوام حاله، لأنينه من وخز الليل في أطرافه، لتحديقه في البعيد هرباً من حاضره القريب.
الغوطة الشرقية هي الجزء البارز من أرضنا العربية المستباحة، هي الشطر المرئي من جبل جليدي يطفو وجهه المهشم على أديم الدم، فيما يغوص جسده الواهن أسفله، هي الشاهدة على أطماع الغرباء واحترابهم على النفوذ في حواضرنا، واتخاذهم إياها ساحةَ تجريب لأسلحتهم المدمرة. الغوطة الشرقية صارت ناطقة باسم الوجع العربي المعاصر، المفارق خضرته ونماءه، الواقف على مسافة بعيدة من الفرح، المسحوق تحت ركام عمائره، الباحث عن ضيائه وسمائه وبحره، المستمر في استمطار حلمه واستدعاء أمنياته التي ما تغيّرت منذ وقوعه تحت حكم الجنرالات، من وكلاء المستعمر أو الموقعين باسم سياساته على حاضر شعوبهم ومستقبلها.
وحين تودّع الغوطة نضارتها، سيودع الأفق العربي كلّه بهاءه، لأن مرور كل هذا الوقت على واقع المجازر في الغوطة وغيرها، يعني أن الأمة كلها مبتلاة بمرض التفرّج والانتظار، وأنها لن تُشفى منه قبل أن تُشفى من انتقائيتها ومزاجيتها في التضامن، ومن تجزيئها لهموم الأمة الواحدة، ومن إعراضها عن بعض الجراح، ومن تعويلها على المراهم الخاطئة، ومن استمرارها في تجريب المسارات المجربة، المطيلة من عمر الهزيمة، والشاحذة سيوفها لتمزيقنا.
الغوطة الدمشقية لا تريد من يبكي أوجاعها، ومثلها هذا المدى العربي كله، ومثله هذا الألم الذي يتمدد فينا بلا توقف، إنه محتاج أولاً لإدراكنا، إدراكنا أصل الأمور والشرور كلها، بتجرد وشمول ودون تجزيء، فمن تربة الإدراك يتبرعم اتجاه الفعل، وعلى أشجاره النامية تتكون الثمار المتصالحة مع نوعها وشكلها ولونها، لا تلك المتخذة شكلاً براقاً لكنها خاوية الطعم والفائدة، ومتى صار للإدراك أشجار في كل موطن، اتسعت مساحة الظل، وتقلّصت مسارات التيه، وميادين العبث، وحضر اليقين، والخطو على هدى وبصيرة.
أضف تعليقك