يظل الإنفاق على الاستثمار أجدى بكثير عن الإنفاق على باقي جوانب النشاط الاقتصادي، وبخاصة إذا ما كان يتعلق بأمن الدولة وحراسة مشروعها الإقليمي. وثمة نموذجان في منطقة الشرق الأوسط يعكسان الوضع الاقتصادي في المنطقة ، حالة من النجاح عبر الواقع التركي، ونموذج للفشل كما هو الحال في السعودية والإمارات، وباقي الدول العربية.
وتتميز مجالات داخل الأنشطة الاستثمارية، تغير من واقع الاقتصاديات المختلفة، فالاستثمار في البحث والتطوير لإنتاج التكنولوجيا، يزيد من القيمة المضافة، بخلاف الاستثمارات في مجالات أخرى تعني بالإنتاج الكمي، وبخاصة في السلع التقليدية أو الصناعات التقليدية.
وفي دلالة على نقلة نوعية للتجربة التركية، فقد أعلن مؤخرًا علي بن يلدرم رئيس الوزراء التركي عن أن بلاده خلال الـ 15 عامًا الماضية وجهت استثمارات في قطاع إنتاج السلاح بلغت 35 مليار دولار، وأن صادرات تركيا من الأسلحة بلغت ملياري دولار سنويًا، فضلًا عن قيامها بإنتاج الدبابات والسفن الحربية والطائرات بدون طيار.
فإنفاق تركيا لنحو 35 مليار دولار كاستثمار في مجال التسليح، أتاح لها أكثر من ميزة، منها زيادة صادراتها من السلاح، وثانيًا اكتسابها لتكنولوجيا جديدة في هذا المجال، وأخيرًا زيادة تأمين احتياجاتها المحلية من السلاح بنسبة تصل إلى 65%، بعد أن كانت بحدود 41% قبل 15 عامًا.
وقد تحقق ذلك نتيجة لدعم البحث والتطوير في مجال الصناعات العسكرية، وثمة فارق كبير بين استثمارات تتمثل في استيراد خطوط إنتاج واستيراد تكنولوجيا، لتكون الدولة مجرد ورشة لتجميع منتجات الآخرين، وبين استثمارات توجه للبحث والتطوير لإنتاج التكنولوجيا المحلية. ومن هنا وجدنا أن التصنيف التنموي لتركيا اختلف عما كان عليه قبل 15 عامًا ، فهي الآن في عداد الدول الصاعدة، وحملها نجاحها الاقتصادي لتكون عضوا بمجموعة العشرين، ولتأتي في المرتبة الـ 17 بين دول تلك المجموعة، وتستهدف تركيا بحلول 2023 أن تكون ضمن أقوى 10 اقتصاديات على مستوى العالم.
إن مقياس النجاح والفشل في الحالتين التركية والعربية لا يقتصر فقط على حسابات التصدير للسلاح، ولكن المقياس الأهم هو الدور الذي تحقق من هذا الاستثمار، ففي تركيا تم انجاز مهمات خاصة بالأمن القومي التركي، دون تورط الدولة التركية واستنزافها في حروب مفتوحة، سواء فيما يتعلق بتأمين حدودها مع العراق، أو ما تقوم به الآن في عفرين في سورية، لمواجهة المشاريع الدولية والإقليمية التي تهدد حدود تركيا وأمنها، عبر جماعات العف الكردية، أو تنظيم داعش.
الفشل العربي
وكما ترصد الإحصاءات الخاصة بواردات السلاح على مستوى العالم، نجد أن الدول العربية تأتي على رأس القائمة، فالسعودية والإمارات تأتيان في قائمة الـ 10 دول الأولى المستوردة للسلاح، ومؤخرًا توسعت مصر في استيراد العديد من الأسلحة، عبر فرنسا والمانيا وروسيا والولايات المتحدة .
فقد بلغات نفقات السعودية على الدفاع في 2016 نحو 61 مليار دولار، بينما الإمارات بلغت نفقاتها نحو 15 مليار دولار، وذلك وفق احصاءات معهد استكهولهم لأبحاث السلام.
وعلى الرغم من هذا الإنفاق المرتفع، والذي يضع السعودية في المرتبة الرابعة على مستوى العالم، وفق هذا المؤشر، فإن الحرب في اليمن، أثبتت أن العائد من هذا الإنفاق لا يتسم بالكفاءة، ولم ينجح في حسم الحرب التي أعلنها التحالف "الخليجي" في اليمن منذ ثلاث سنوات، فضلًا عن عجز النظم الدفاعية السعودية والإماراتية عن مواجهة تهديدات جماعة الحوثيين، الذين يفتقرون للمقومات المالية المتاحة للسعودية والإمارات.
فعلى مدار عقود مضت انفقت فيها الدول الخليجية والعربية مليارات الدولارات على شراء السلاح، إلا أنها فشلت في أن تحقق حالة نجاح لتكون جزءا من منظومة إنتاج التكنولوجيا العسكرية، أو توفير نسبة عالية من احتياجاتها من السلاح، فضلًا عن أن تكون دولا مصدرة له.
افتقاد الحلم
يعكس الواقع مرارة المقارنة بين النهوض التركي والتراجع العربي، ويزيد من حجم الفجوة بين الطرفين أن تركيا لديها مشروع وحلم للمستقبل، بينما الدول العربية تفتقد هذا الحلم على مستوى الحكومات، بل على مستوى الشعوب، بعد أن مزقت الحروب الأهلية نحو أكثر من 6 دول عربية (السودان، والصومال، وليبيا، واليمن، وسورية، والعراق).
إن ما أنفقته تركيا على مدار 15 عامًا على الاستثمار في مجال التسليح، وهو 35 مليار دولار، لا يمثل شيئا في حجم إنفاق الدول العربية على التسليح، بل لا يمثل إلا نحو 60% من حجم إنفاق السعودية وحدها في عام 2016 .
فمتى تصحو الدول العربية، لتحسن توظيف مواردها المالية والبشرية والطبيعية، ولتحافظ على مقدراتها كدول قطرية فقط، ولن نقول لعالم عربي، ضاع حلمه في الوحدة والتكامل على مدار ما يزيد عن 6 عقود.
أضف تعليقك