إن الثقة بالله تعالى موقف ينشأ عما يقوم بنفس المؤمن من أن الله حق وما خلاه باطل، وأن هدى الله هو الهدى ليس بعده إلا الضلال، فإذا استقر هذا العلم بالنفس وصار ديدن المؤمن، واعتقادًا جازمًا حاسمًا بأن الله هو الناصر .. هو المؤيد بنصره من يشاء .. أورث المؤمن حالة من الثقة المطلقة بصحة الطريق الذي يسلكه مقبلاً على ربه وعاملاً في سبيله، وذلك يدعوه للإقدام بثبات نحو الغاية المنصوبة أمامه على صراطها المستقيم. وثقة المؤمن في الله وفي شرعه ثقة وطيدة لا تزعزها الشكوك، فهو إنما يوجه لأعلى ما يصبو إليه البشر، وأكمل ما يقصدون- لله الكبير المتعال- بينما ينحط أهل الشرك ويتخذون من دون الله آلهة ما هم إلا بعض خلقه، لا يماثلونه في شيء . والمؤمن إنما يجعل ولاءه لله الواحد القهار، الذي يصرف أسباب الحياة.. يجلب الخير ويكشف الضر .. والذي ينفرد بالملك يوم الدين لا عاصم من أمره ولا يملك أحدٌ معه شيئًا .. والمؤمن إذ يهتدي بهدى الله، ويتبع شريعته؛ يثق أنه على طريق سديد .. وهكذا يتم للمؤمن اليقين القاطع بأنه يأوي إلى ركن شديد، ويسير على طريق سديد، ويصح اعتماده على ربه:} فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ[79]{ “سورة النمل”
}فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[159]إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[160]{ “سورة آل عمران” }قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[51]{“سورة التوبة”.
نقلة لطيفة: ننتقل بها لنتعرف على جانب آخر- وأقصد بذلك: الجانب 'الحركي'- من جوانب الثقة:بعد أن نظرنا إلى الثقة بمنظار إيماني تهفو إليه القلوب بأجنحتها، دعنا أخي الداعية نفتح ثغرة ننظر من خلالها إلى ماضينا الإسلامي التليد، ونتحسس أخبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك 'الجيل القرآني الفريد' ننظر إليهم بمنظار الثقة بالله .. وكيف حولوا ذلك المفهوم إلى 'حركة ' شهد لها التاريخ على مر العصور:
فهذا عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ لمّا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لأَصْحَابِهِ يَومَ بَدْرٍ: [ قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ] قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ: [ نَعَمْ] قَالَ: بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ] قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ: [ فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا” فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ: [ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ] رواه مسلم وأحمد.ما أحوجنا نحن الدعاة إلى صيحة عمير هذه .. نقتبس منها جذوة تنير طريق الدعاة المظلم؛ لترسم له معالم الطريق .. بالثقة بالله في كل حركة .. وفي كل سكنة، نعم هذه صيحة من الأعماق ..!! [هذه نماذج من ذلك الجيل السامق الذي تربى بالقرآن في حجر محمد صلى الله عليه وسلم في ظلال التوجيه الرباني الكريم:} قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ[195]إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ[196] {“سورة الأعراف”..
ثم ماذا كان بعد هذا الأذى الذي احتملوه من كيد المشركين، وهذا الاعتصام بالله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين؟ كانت الغلبة، والعزة، والتمكين لأولياء الله، وكانت الهزيمة، والهوان، والدثور للطواغيت الذين قتلوا الصالحين، وكانت التبعية ممن بقي منهم ممن شرح الله صدره للإسلام لهؤلاء السابقين الذين احتملوا الأذى بثقة في الله لا تزعزع، وبعزيمة في الله لا تلين..
إنّ صاحب الدعوة إلى الله في كل زمان وفي كل مكان لن يبلغ شيئًا إلا بمثل هذه الثقة، وإلا بمثل هذه العزيمة، وإلا بمثل ذلك اليقين .. ومهما أسفر الباطل من تعدٍ وأطلق على الدعاة تهديده، وبقى في وجه كلمة الحق الهادئة، وعربد في التعبير والتفكير .. ينبغي على الدعاة أن يمضوا في الطريق، وأن يحملوا الواجب الملقى على عاتقهم]”طريق الدعوة في ظلال القرآن”.
مصادر الثقة بالله:
1 - ضعف لا يتسرب إلى نفسك : [وهذا هو كتاب الله ينطق بيننا، محذرًا من أن يتسرب الضعف إلى نفوس الأتباع، فتحن قلوبهم إلى الاستسلام، لأن الله القدير مؤيدهم وناصرهم، وآخذ بأيديهم، وموهن كيد أعدائهم ...} وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[104]{ “سورة النساء”.ويقول تعالى:} فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ[35]{ “سورة محمد” .
ويبث القرآن الثقة في المجاهدين بأنفسهم معلنًا أن النصر بيد الله وحده، وأن القلة مع تأييد الله لابد من أن تغلب الكثرة مهما بلغت من قوة:}...كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[249]{“سورة البقرة” ويقول تعالى:} إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ[65]{ “سورة الأنفال”
ويقوي القرآن في نفوس المجاهدين الثقة بالنصر؛ لأنهم إنما يجاهدون في سبيل الحق وحده، ولأن وراء الحق قويًا ينصر أهل الحق، وهو يملك وحده جنود السموات والأرض:} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ[11]{ “سورة محمد”]” التربية في القرآن لمحمد عبد الله السمان” .
يقول سيد قطب-رحمة الله عليه- في 'الظلال' في تفسير هذه الآية: [ومن كان الله مولاه وناصره فحسبه، وفيه الكفاية والغناء، وكل ما قد يصيبه إنما هو ابتلاء وراءه الخير، لا تخليًا من الله عن ولايته له، ولا تخلفًا لوعد الله بنصر من يتولاهم من عباده، ومن لم يكن الله مولاه؛ فلا مولى له، ولو تجمعت له كل أسباب الحماية وكل أسباب القوة التي تجعله يعرفه الناس بها]”في ظلال القرآن”.
وهذا داعية آخر يخاطبنا بكلمات من نور لمّا أدرك تمام الإدراك الثقة بالله وبنصره لدعوته، وأن الله لن يخذل عصبة الإسلام .. ولن يترك لراية الخير أن تتناولها أيدي الطغاة .. كلمات الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله عندما قال:[إنها دعوة الله وليست دعوة أشخاص، وإن الله علّم المسلمين أن الدعوة ترتبط به ولا ترتبط بالدعاة إليها، وأن حظ الأشخاص منها من عمل بها أكرمه الله بعمله، ومن ترك العمل بها، فقد أبعد الخير عن نفسه، وما يضير الدعوة شيئًا]”العوائق، للراشد” .
2 - رجعة إلى الله والصلة به عز وجل : يقول أحد الدعاة: [ادعوا المسلمين خصوصًا .. ادعوهم إلى رجعة حقيقية-لا رجعة كلامية لفظية- إلى الله عز وجل .. ادعوهم إلى توثيق الصلة به، وصدق العبودية له، وربط القلب بالفكر .. إنكم يا شباب إذا رجعتم إلى الله هذه الرجعة الصادقة؛ كنتم الأعلون، وكنتم قدرًا من قدر الله الذي لا يرد .. إذا أردتم الآخرة؛ هانت عليكم الدنيا، فتحررتم من إسار الدنيا، وإذا عرفتم الله صغر عندكم من سواه وما سواه، بل ذاب في أعينكم، وفني في قلوبكم كل ما عداه، ولم يعد يستأهل الطلب والنصب إلا قربه ورضاه، وإذا استشعرتم رابطتكم بربكم وعونه لكم، وأيقنتم أنه معكم؛ رأيتم أنفسكم أقوى من كل قوى الشيطان والطغيان ..!! وهكذا يولد المسلم ولادة جديدة من عقيدته لا من رحم أمه، وينبعث بمعرفته بالله وحرارة إيمانه به .. ولقد أحسن جند الله المؤمنون المخلصون، الذين فرغوا من أنفسهم، ووهبوا حياتهم-كل حياتهم- لربهم، فلم يتحركوا، ولم يقفوا، ولم يعطوا، ولم يمنعوا، ولم يحبوا، ولم يبغضوا، ولم يحاربوا، ولم يسالموا إلا به وفيه ومن أجله عز وجل .. لقد أحسوا أنهم قدر من قدر الله الغلاّب لا تصده ولا ترده قوة في الأرض إلا أن يشاء الله ..]”أزمة روحية، عصام العطار”.
3 - مع الله في كل حال: [أن أكون مع الله في كل حال .. واثقًا به في قدرته على نصري إن أنا بذلت الأسباب. وإن لم أستطع جني الثمار فإنها ستنتظرني عند ربي .. غدًا في الملتقى] ..!!
أن أكون مع الله في سبحات الفكر .. أن أكون مع الله في لمحات البصر .. أرى بديع صنعه فأوقن بأن هناك خالقًا لهذا الخلق ومدبرًا لهذا الكون .. وأن أكون مع الله حال احتدام الخطر .. موقنًا بأن الله لا يخذل عند وقع الأذى وتصاعد الصراع، موقنًا بأن فوق عسر المحن يسرا ربانياً، يستجلبه بوحدة يحرص عليها مع إخوانه المؤمنين، يرغم الشيطان بها عند اختلاف الاجتهاد وتزييفات الانفراد .. أن أكون مع الله في حب أهل التقى، وكره من قد فجر .. فلذلك يكون في كل حال .. مع الله]”العوائق،للراشد”.
[.. وأن أكون متصلاً برباط وثيق مع الله متوكلاً عليه في جميع أموري متيقنًا بأن الله تعالى هو المنفرد بالخلق، والتدبير، والضرر والنفع، والمنع والعطاء، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله تعالى يكفي من يتوكل عليه، ويفوض الأمور إليه .. لا سيما من يتوكل عليه في أمور الدعوة إلى الله ونصره وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه، قال تعالى حكاية عن موسى وهارون:} قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى[45]قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى[46]{ “سورة طه”. وهذه المعية- معية النصر والتأييد- غير مقصورة على أنبيائه ورسله المتوكلين عليه في تبليغ رسالاته، وإنما هي شاملة لعباده المؤمنين المتقين-لاسيما الدعاة منهم إلى دينه-} إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[128]{ “سورة النحل”.
عدة الداعي:
إن للثقة بالله تعالى متطلبات وعدة .. ولابد للداعية من عدة قوية من 'الفهم الدقيق' و'الإيمان العميق' و'الاتصال الوثيق' بالله تعالى .. هذه هي مقومات عدة الداعي وأركانها، وإذا فقدها لم يغن عنها شيء آخر، وإذا ضعفت معانيها في نفسه فعليه أن يقويها.والاتصال الوثيق بالرب جل جلاله ضروري جدًا للداعي المسلم .. فبه تهون عليه الصعاب، وتخفف الآلام، وتنتزع من قلبه الخشية من الناس: }الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[173]{“سورة آل عمران” ويحس بعزة الإيمان؛ لأنه موصول بالقوي العزيز: }وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ[8]{“سورة المنافقون”. فلا يعظم في عينه باطل ولا مبطل؛ لأن الباطل وأهله من التافه الحقير، فلا يمكن أن يعظم في أعين المؤمنين.
فالداعية يثق في ميدان الدعوة، ويوقن إيقانًا عميقًا بأن ما معه هو الشيء الوحيد المثمر، وأن ما عداه لاثمر له؛ لأنه وَهْمٌ لا وجود له .. ولك أن توازن بين شعور زارع يبذر بذورًا سليمة، وآخر يبذر بذورًا عفنة وهو يدرك أنها عفنة .. بل لك أن توازن بين هذين:أحدهما يبذر بذورًا سليمة، والآخر ليس في يده شيء .. إلا أنه يقبض قبضته ثم يبسطها في الجو، لينشر على الأرض لا شيء ..!! محاكيًا فعل الرجل الأول .. فأي العملين حق، وأيهما باطل؟!
أضف تعليقك